فصل: إعارة الدّوابّ وما في معناها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إضرابٌ

التعريف

1 - الإضراب مصدر أضرب‏.‏ يقال‏:‏ أضربت عن الشّيء كففت عنه وأعرضت، وضرب عنه الأمر‏:‏ صرفه عنه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفنضرب عنكم الذّكر صفحاً‏}‏ أي نهملكم فلا نعرّفكم ما يجب عليكم‏.‏ وهو في الاصطلاح إثبات الحكم لما بعد أداة الإضراب، وجعل الأوّل ‏(‏المعطوف عليه‏)‏ كالمسكوت عنه‏.‏ وصورته أن يقول مثلاً لغير المدخل بها‏:‏ إن دخلت الدّار فأنت طالقٌ واحدةً بل ثنتين، أو يقول في الإقرار‏:‏ له عليّ درهمٌ بل درهمان‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاستثناء

2 - الاستثناء هو المنع من دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه بإلاّ أو بإحدى أخواتها‏.‏ أو هو قولٌ وصيغٌ مخصوصةٌ محصورةٌ دالّةٌ على أنّ المذكور بعد أداة الاستثناء لم يرد بالقول الأوّل‏.‏ فهو على هذا يخالف الإضراب، لأنّ الإضراب إقرارٌ للأوّل على رأيٍ، وتبديلٌ له على رأيٍ آخر، وهذا يخالف الاستثناء، لأنّ الاستثناء تغييرٌ لمقتضى صيغة الكلام الأوّل وليس بتبديلٍ، إنّما التّبديل أن يخرج الكلام من أن يكون إخباراً بالواجب أصلاً‏.‏

ب - النّسخ

3 - النّسخ رفع الحكم الثّابت بدليلٍ شرعيٍّ متأخّرٍ، وعلى هذا فالفرق بين النّسخ وبين الإضراب أنّ الإضراب متّصلٌ، أمّا النّسخ فمنفصلٌ‏.‏

الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث

4 - الإضراب‏:‏ إبطالٌ وإلغاءٌ للأوّل ورجوعٌ عنه، ويختلف الحكم ما بين الإنشاء والإقرار‏:‏ فلا يقبل رجوع المقرّ عن إقراره إلاّ فيما كان حقّاً للّه تعالى يدرأ بالشّبهات، ويحتاط لإسقاطه، فأمّا حقوق الآدميّين وحقوق اللّه تعالى الّتي لا تدرأ بالشّبهات كالزّكاة والكفّارات فلا يقبل رجوعه عنها‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ لا نعلم في هذا خلافاً‏.‏ ويفصّل الحنفيّة حكم الإضراب فيقولون‏:‏ الأصل في ذلك أنّ ‏"‏ لا بل ‏"‏ لاستدراك الغلط، والغلط إنّما يقع غالباً في جنسٍ واحدٍ، إلاّ أنّه إذا كان لرجلين كان رجوعاً عن الأوّل فلا يقبل، ويثبت للثّاني بإقراره الثّاني، وإذا كان الإقرار الثّاني أكثر صحّ الاستدراك، ويصدّقه المقرّ له‏.‏ وإن كان أقلّ كان متّهماً في الاستدراك، والمقرّ له لا يصدّقه فيلزمه الأكثر، فلو قال‏:‏ لفلانٍ عليّ ألفٌ، لا بل ألفان يلزمه ألفان، وهذا عند غير زفر، أمّا عنده فيلزم بإقراريه ‏(‏الأوّل والثّاني‏)‏ أي ثلاثة آلافٍ، وجه قول زفر أنّه أقرّ بألفٍ فيلزمه، وقوله‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ رجوع، فلا يصدّق فيه، ثمّ أقرّ بألفين فصحّ الإقرار، وصار كقوله‏:‏ أنت طالقٌ واحدةً، لا بل اثنتين، وجوابه‏:‏ أنّ الإقرار إخبارٌ يجري فيه الغلط فيجري فيه الاستدراك فيلزمه الأكثر، والطّلاق إنشاءٌ ولا يملك إبطال ما أنشأ فافترقا‏.‏ كما أنّ الأصل أنّ ‏"‏ لا بل ‏"‏ متى تخلّلت بين المالين من جنسين لزم المالان المقرّ وتفصيله في الإقرار والأيمان والطّلاق والعتق‏.‏

إضرارٌ

انظر‏:‏ ضررٌ‏.‏

اضطباعٌ

التعريف

1 - الاضطباع في اللّغة‏:‏ افتعالٌ من الضّبع، وهو وسط العضد، وقيل‏:‏ الإبط ‏(‏للمجاورة‏)‏‏.‏ ومعنى الاضطباع المأمور به شرعاً‏:‏ أن يدخل الرّجل رداءه الّذي يلبسه تحت منكبه الأيمن فيلقيه على عاتقه الأيسر وتبقى كتفه اليمنى مكشوفةً، ويطلق عليه التّأبّط والتّوشّح‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإسدال

2 - الإسدال لغةً‏:‏ إرخاء الثّوب وإرساله من غير ضمّ جانبيه باليدين‏.‏ والإسدال المنهيّ عنه في الصّلاة هو أن يلقي طرف الرّداء من الجانبين، ولا يردّ أحد طرفيه على الكتف الأخرى، ولا يضمّ الطّرفين بيده‏.‏

ب - اشتمال الصّمّاء

3 - فسّره أبو عبيدٍ بأن يلتفّ الرّجل بثوبه يغطّي به جسده كلّه، ولا يرفع منه جانباً يخرج منه يده‏.‏‏.‏ لعلّه يصيبه شيءٌ يريد الاحتراس منه فلا يقدر عليه‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن يضطبع بالثّوب ولا إزار عليه فيبدو شقّه وعورته‏.‏ فالفرق بينه وبين الاضطباع أنّه لا يكون تحت الرّداء ما يستتر به فتبدو عورته‏.‏ وللتّفصيل ينظر ‏(‏اشتمال الصّمّاء‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ

4 - الاضطباع في طواف القدوم مستحبٌّ عند جمهور الفقهاء، لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً وعليه بردٌ» وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثمّ قذفوها على عواتقهم اليسرى» فإذا فرغ من الطّواف سوّاه فجعله على عاتقيه‏.‏ وأورد ابن قدامة قول مالكٍ عن الاضطباع في طواف القدوم بأنّه ليس سنّةً، ولم نجد لذلك إشارةً في كتب المالكيّة الّتي بين أيدينا إلاّ في المنتقى للباجيّ حيث قال‏:‏ ‏(‏الرّمل في الطّواف هو الإسراع فيه بالخبب لا يحسر عن منكبيه ولا يحرّكهما‏)‏‏.‏

مواطن البحث

5 - يبحث الاضطباع في الحجّ عند الكلام عن الطّواف، وفي الصّلاة عند الكلام عن ستر العورة من شروط الصّلاة‏.‏

اضطجاعٌ

التعريف

1 - الاضطجاع في اللّغة مصدر اضطجع، ‏(‏وأصله ضجع وقلّما يستعمل الفعل الثّلاثيّ‏)‏‏.‏ والاضطجاع‏:‏ النّوم، وقيل‏:‏ وضع الجنب بالأرض‏.‏ والاضطجاع في السّجود، ألاّ يجافي بطنه عن فخذيه‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ صلّى مضطجعاً فمعناه‏:‏ أن يضطجع على أحد شقّيه مستقبلاً القبلة‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذه المعاني اللّغويّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاتّكاء

2 - الاتّكاء هو الاعتماد على شيءٍ بجنبٍ معيّنٍ، سواءٌ كان في الجلوس أو في الوقوف‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ اتّكاءٌ‏)‏‏.‏

ب - الاستناد

3 - الاستناد هو الاتّكاء بالظّهر لا غير‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ استنادٌ‏)‏‏.‏

ج - الإضجاع

4 - الإضجاع هو وضع جنب الإنسان أو الحيوان على أحد شقّيه على الأرض‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إضجاعٌ‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ

5 - الاضطجاع في النّوم ينقض الوضوء عند جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة‏)‏ لأنّ الاضطجاع عندهم سببٌ لاسترخاء المفاصل، فلا يخلو من خروج ريحٍ عادةً، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا وضوء على من نام قائماً أو قاعداً أو راكعاً أو ساجداً، إنّما الوضوء على من نام مضطجعاً فاسترخت مفاصله»‏.‏ وهذه الطّريقة لعبد الحقّ وغيره من المالكيّة‏.‏ أمّا طريقة اللّخميّ من المالكيّة فهي‏:‏ أنّ المضطجع إذا كان نائماً نوماً ثقيلاً ينتقض وضوءه، سواءٌ أكان مضطجعاً أم قائماً أو قاعداً أو راكعاً أو ساجداً، وأرجع ذلك إلى صفة النّوم، ولا عبرة عنده - ومن يرى رأيه من المالكيّة - بهيئة النّائم‏.‏ فإن كان نومه غير ثقيلٍ وهو على هيئة الاضطجاع لا ينتقض وضوءه‏:‏ والاضطجاع بعد سنّة الفجر - على صورةٍ لا ينتقض معها الوضوء - مندوبٌ لفعل النّبيّ‏.‏ والاضطجاع عند تناول الطّعام مكروهٌ للنّهي عن الأكل متّكئاً‏.‏

مواطن البحث

6 - يبحث الاضطجاع عند الكلام عن نقضه للوضوء بالنّوم، ويبحث اضطجاع المريض في صلاة المريض‏.‏

اضطرارٌ

انظر‏:‏ ضرورةٌ‏.‏

إطاقةٌ

انظر‏:‏ استطاعةٌ‏.‏

أطرافٌ

التعريف

1 - الأطراف‏:‏ مفردها طرفٌ‏.‏ وطرف الشّيء نهايته، ولذلك سمّيت اليدان والرّجلان والرّأس أطراف البدن، ولذلك أيضاً كان البنان طرف الأصبع‏.‏ ومن هنا يقولون‏:‏ إذا خضّبت المرأة بنانها أنّها طرفت أصبعها‏.‏ والفقهاء يستعملون كلمة «أطرافٍ ‏"‏ بهذه الاستعمالات الّتي استعملها أهل اللّغة‏.‏

الحكم الإجماليّ

الجناية على الأطراف

2 - فصّل الفقهاء في كتاب الجنايات الكلام في الجناية على الأطراف في حالتي العمد والخطأ، وفي حالة ما إذا كان الطّرف المجنيّ عليه قائماً يؤدّي منفعته المقصودة منه، أو قائماً ولكنّه لا يؤدّي المنفعة المقصودة منه، وفي حالة ما إذا كان العضو المناظر للعضو المجنيّ عليه في الجاني سليماً يؤدّي المنفعة المقصودة منه، أو معطوباً لا يؤدّي المنفعة المقصودة منه‏.‏ وسيأتي ذلك كلّه في مصطلح ‏(‏جنايةٌ‏)‏‏.‏

الأطراف في السّجود

3 - اتّفق الفقهاء على وجوب السّجود على الأطراف ‏(‏الكفّين، والرّأس والقدمين‏)‏ إضافةً إلى الرّكبتين‏.‏ ولكنّهم اختلفوا من حيث الاستحباب في ترتيب وضع اليدين على الأرض - عندما يهوى للسّجود - أو بعد وضع الرّكبتين أو قبل وضع الرّكبتين، وكذلك عند النّهوض من السّجود إلى القيام‏.‏ كما اختلفوا في حكم السّجود على أطراف أصابع القدمين، وهل هو سنّةٌ أو واجبٌ‏.‏ وقد فصّل الفقهاء ذلك كلّه في كتاب الصّلاة عند كلامهم على السّجود‏.‏

4 - وكره بعض الفقهاء خضاب المرأة أطراف الأصابع فقط دون الكفّ ‏(‏التّطريف‏)‏ وورد النّهي عن ذلك عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، كما ذكر الفقهاء ذلك في خصال الفطرة، وفي كتاب الحظر والإباحة‏.‏

اطّرادٌ

التعريف

1 - الاطّراد في اللّغة‏:‏ مصدر اطّرد الأمر إذا تبع بعضه بعضاً‏.‏ يقال‏:‏ اطّرد الماء، واطّردت الأنهار إذا جرت‏.‏ واطّراد الوصف عند الأصوليّين معناه‏:‏ أنّه كلّما وجد الوصف وجد الحكم، وذلك كوجود حرمة الخمر مع إسكارها، أو لونها، أو طعمها، أو رائحتها‏.‏ ولا يكون الوصف علّةً للحكم إلاّ إذا كان مطّرداً منعكساً مع كونه مناسباً للحكم، كالإسكار بالنّسبة إلى تحريم الخمر‏.‏ كما استعمل الأصوليّون والفقهاء الاطّراد بمعنى الغلبة والذّيوع، وذلك عند الكلام على الشّروط المعتبرة للعادة والعرف‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العكس ‏:‏

2 - العكس في اللّغة‏:‏ ردّ أوّل الشّيء على آخره‏.‏ يقال عكسه عكساً من باب ضرب‏.‏ وانعكس الشّيء‏:‏ مطاوع عكسه‏.‏ والانعكاس في باب مسالك العلّة عند الأصوليّين أنّه كلّما انتفى الوصف انتفى الحكم، كانتفاء حرمة الخمر بزوال إسكارها، أو رائحتها، أو أحد أوصافها الأخرى‏.‏ ويقال له‏:‏ العكس أيضاً‏.‏ وعليه فهو ضدّ الاطّراد‏.‏

ب - الدّوران‏:‏

3 - فرّق بعضهم بين الدّوران وبين الاطّراد، فخصّ الدّوران بالمقارنة في الوجود والعدم، والطّرد والاطّراد بالمقارنة بالوجود فقط‏.‏

ج - الغلبة ‏:‏

4 - الفرق بين المطّرد والغالب أنّ المطّرد لا يتخلّف، بخلاف الغالب فإنّه متخلّفٌ في الأقلّ، وإن كان مطّرداً في الأكثر‏.‏

د - العموم ‏:‏

5 - اطّراد العرف أو العادة غير عمومهما، فإنّ العموم مرتبطٌ بالمكان والمجال، فالعرف العامّ على هذا‏:‏ ما كان شائعاً في البلدان، والخاصّ ما كان في بلدٍ، أو بلدانٍ معيّنةٍ، أو عند طائفةٍ خاصّةٍ‏.‏

الحكم الإجماليّ

أ - اطّراد العلّة‏:‏

6 - ذهب بعض الأصوليّين إلى اعتبار الاطّراد في العلّة مسلكاً من مسالكها المعتبرة لمعرفتها، وإثباتها بها لإفادته الظّنّ، ولم يعتبره الحنفيّة وكثيرٌ من الأشعريّة، كالغزاليّ والآمديّ مسلكاً، على خلافٍ وتفصيل موطنه الملحق الأصوليّ‏.‏

ب - الاطّراد في العادة‏:‏

7 - ذكر ابن نجيمٍ في الأشباه والنّظائر أنّ العادة إنّما تعتبر إذا اطّردت أو غلبت، ولذا قالوا في البيع‏:‏ لو باع بدراهم أو دنانير وكانا في بلدٍ اختلفت فيه النّقود مع الاختلاف في الماليّة والرّواج انصرف البيع إلى الأغلب‏.‏ قال في الهداية‏:‏ لأنّه هو المتعارف فينصرف المطلق إليه‏.‏‏.‏ ثمّ تساءل ابن نجيمٍ عن العادة المطّردة، هل تنزّل منزلة الشّرط ‏؟‏ وقال‏:‏ قال في إجارة الظّهيريّة‏:‏ والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً‏.‏ ومراد ابن نجيمٍ من الاطّراد في عبارته الأخيرة ما هو أعمّ من الاطّراد الّذي لا يتخلّف، وهو ما ذكره صاحب دستور العلماء، بدليل تصريح ابن نجيمٍ نفسه في عبارته الأولى، بأنّ غلبة العادة في حكم اطّرادها‏.‏ وعبارة السّيوطيّ في أشباهه‏:‏ ‏(‏إنّما تعتبر العادة إذا اطّردت فإن اضطربت فلا‏)‏، ثمّ مثّل لذلك بأنّ من باع شيئاً وأطلق نزّل على النّقد الغالب، فلو اضطربت العادة في البلد وجب البيان، وإلاّ بطل البيع‏.‏ فتقييده النّقد بالغالب صريحٌ في أنّ الغلبة كافيةٌ هنا كما هو واضحٌ‏.‏ وتمام الكلام على ذلك في الملحق الأصوليّ، ومصطلح ‏(‏عادةٌ‏)‏‏.‏ هذا، وقد يحدث أن يطّرد العمل بأمرين، يتعارفهما النّاس، قد يكونان متضادّين، كأن يتعارف بعضهم قبض الصّداق قبل الدّخول، ويتعارف بعضهم الآخر غير ذلك‏.‏ من غير غلبةٍ لأحدهما، فيسمّى ذلك بالعرف المشترك‏.‏ وموطن تفصيله عند الكلام على ‏(‏العرف‏)‏‏.‏

مواطن البحث

8 - يذكر الأصوليّون الاطّراد عند الكلام على مسالك العلّة من باب القياس، باعتباره مسلكاً من مسالكها، كما يذكره الفقهاء والأصوليّون عند الكلام على القاعدة الفقهيّة‏:‏ ‏(‏العادة محكّمةٌ‏)‏‏.‏ وذكر الأصوليّون في كلامهم على الحقيقة والمجاز، أنّ المعنى الحقيقيّ يلزم فيه اطّراد ما يدلّ عليه من الحقيقة في جميع جزئيّاته، وأنّ عدم الاطّراد ممّا يعرف به المجاز‏.‏

إطعامٌ

التعريف

1 - الإطعام لغةً - إعطاء الطّعام لآكله ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّمليك

2 - تمليك الشّيء جعله ملكاً للغير‏.‏ وعلى هذا قد يكون الإطعام تمليكاً فيتّفقان، وقد يكون الإطعام إباحةً فيفترقان‏.‏ كما أنّ التّمليك قد يكون تمليكاً للطّعام، وقد يكون تمليكاً لغيره‏.‏

ب - الإباحة

3 - الإباحة لغةً‏:‏ الإظهار والإعلان، من قولهم‏:‏ أباح السّرّ‏:‏ أعلنه، وقد يرد بمعنى الإذن والإطلاق يقال‏:‏ أبحته كذا إذا أطلقته‏.‏ واصطلاحاً، يراد بها الإذن بإتيان الفعل أو تركه‏.‏ وعلى هذا قد يكون الإطعام إباحةً فيجتمعان في وجهٍ، وقد يكون تمليكاً فيفترقان في وجهٍ آخر، وقد تكون الإباحة للطّعام أو لغيره‏.‏

حكمه التّكليفيّ

4 - يجب الإطعام على المكلّف في الدّية والكفّارات، وحالات الضّرورة، كسدّ الرّمق ويندب في الصّدقات والقربات، كالإطعام في الأضحيّة‏.‏ ويستحبّ في أمورٍ، منها النّكاح والعقيقة والختان‏.‏ وتحرم في أمورٍ‏:‏ منها إطعام الظّلمة والعصاة للمساعدة على الظّلم والعصيان، وسيأتي تفصيل ذلك‏.‏ أسباب الإطعام المطلوب شرعاً‏:‏

أ - الاحتباس

5 - احتباس الزّوجة سببٌ من أسباب النّفقة المتضمّنة للإطعام، للقاعدة الفقهيّة‏:‏ النّفقة نظير الاحتباس، وكذا الحكم في احتباس العجماوات، لأنّ حبسها بدون طعامٍ هلاكٌ يستوجب العقاب، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دخلت امرأةٌ النّار في هرّةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض»‏.‏ أمّا إطعام المحبوس في التّهمة، مثل حبس السّارق حتّى يسأل الشّهود، والمرتدّ حتّى يتوب، فإنّه يطعم من ماله، لا خلاف في هذا بين الفقهاء إذا كان له مالٌ، غير أنّ الشّافعيّة أجازوا الإنفاق عليه من بيت المال إذا تيسّر ذلك‏.‏ وإذا لم يكن له مالٌ أنفق عليه من بيت المال وجوباً كما سيأتي‏.‏

ب - الاضطرار

6 - اتّفق الفقهاء على أنّ إطعام المضطرّ واجبٌ، فإذا أشرف على الهلاك من الجوع أو العطش، ومنعه مانعٌ فله أن يقاتل ليحصل على ما يحفظ حياته، لما روي عن الهيثم‏:‏ أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوا أهله أن يدلّوهم على بئرٍ فأبوا، فسألوهم أن يعطوهم دلواً فأبوا، فقالوا لهم‏:‏ إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت أن تتقطّع فأبوا أن يعطوهم، فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه‏.‏ فقال لهم عمر‏:‏ فهلاّ وضعتم فيهم السّلاح‏.‏ قال الفقهاء‏:‏ فيه دليلٌ على أنّ لهم في الماء حقّ الشّفة وكذلك الطّعام‏.‏ وللتّفصيل ينظر ‏(‏اضطرارٌ‏)‏ ‏(‏وضرورةٌ‏)‏‏.‏

ج - الإكرام

7 - يندب الإطعام لإكرام الضّيف، وصلة الرّحم، وبرّ الجار وإضافة الصّدّيق، وأهل الخير والفضل والتّقوى، لقوله تعالى في ضيف إبراهيم‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليصل رحمه»‏.‏ كما يسنّ في أمورٍ تدخل في باب الإكرام كالأضحيّة والوليمة‏.‏

الإطعام في الكفّارات

8 - الإطعام نوعٌ من الأنواع الواجبة في الكفّارة، يقدّم تارةً كما في كفّارة الأيمان، ويؤخّر تارةً كما في كفّارة الظّهار، وكذا الفطر في رمضان على خلافٍ للمالكيّة فيه‏.‏ الكفّارات الّتي فيهما إطعامٌ‏:‏

أ - كفّارة الصّوم

9 - اتّفق الفقهاء على وجوب الإطعام في كفّارة الفطر في صوم رمضان أداءً، غير أنّ الشّافعيّة والحنابلة قصروه على من جامع في رمضان عامداً، دون من أفطر فيه بغير الجماع، واختلف الفقهاء في رتبته تقديماً وتأخيراً‏.‏ فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بتأخيره عن الإعتاق والصّيام، وقال المالكيّة بالتّخيير بين الأنواع الثّلاثة‏:‏ الإعتاق والصّيام والإطعام‏.‏ وتفصيله في الكفّارات‏.‏

ب - كفّارة اليمين

10 - اتّفق الفقهاء في وجوب الإطعام في كفّارة اليمين باللّه تعالى إذا حنث فيها على التّخيير بينه وبين الكسوة وتحرير الرّقبة، فإن عجز فصيام ثلاثة أيّامٍ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان، فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ‏.‏ فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ ذلك كفّارة أيمانكم إذا حلفتم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ج - كفّارة الظّهار

11 - إذا ظاهر الرّجل من امرأته بأن قال لها‏:‏ أنت كظهر أمّي، لزمته الكفّارة بالعود‏.‏ ومن أنواعها الإطعام عند عدم استطاعته تحرير رقبةٍ أو صيام شهرين، على هذا اتّفق أهل العلم، فلا يجزئ إلاّ هذا التّرتيب، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به واللّه بما تعملون خبيرٌ‏.‏ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً‏.‏‏.‏‏}‏

مقدار الإطعام الواجب في الكفّارة

12 - قال الحنفيّة‏:‏ يجب لكلّ فقيرٍ نصف صاعٍ من برٍّ، أو صاعٌ كاملٌ من تمرٍ أو شعيرٍ‏.‏ والدّقيق من البرّ أو الشّعير بمنزلة أصله، وكذا السّويق، وهل يعتبر تمام الكيل أو القيمة في كلٍّ من الدّقيق والسّويق ‏؟‏‏.‏ في ذلك رأيان‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يجب لكلّ فقيرٍ مدٌّ من برٍّ، أو مقدار ما يصلح للإشباع من بقيّة الأقوات التّسعة، وهي القمح والشّعير والسّلت، والذّرة، والدّخن، والأرزّ، والتّمر والزّبيب، والأقط‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يجب لكلّ فقيرٍ مدٌّ واحدٌ من غالب قوت البلد ممّا ذكر من الأصناف السّابقة أو غيرها‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يجب لكلّ مسكينٍ مدٌّ من برٍّ أو نصف صاعٍ من شعيرٍ أو تمرٍ أو زبيبٍ أو أقطٍ، ويجزئ دقيقٌ وسويقٌ بوزن الحبّ، سواءٌ أكان من قوت البلد أو لا، وقال أبو الخطّاب منهم‏:‏ يجزئ كلّ أقوات البلد، والأفضل عندهم إخراج الحبّ‏.‏

الإباحة والتّمليك في الكفّارات

13 - التّمليك هو إعطاء المقدار الواجب في الإطعام، ليتصرّف فيه المستحقّ تصرّف الملاّك‏.‏ والإباحة هي تمكين المستحقّ من تناول الطّعام المخرج في الكفّارة‏.‏ كأن يغدّيهم ويعشّيهم، أو يغدّيهم غداءين أو يعشّيهم عشاءين‏.‏ وقد أجاز الحنفيّة والمالكيّة التّمليك والإباحة في الإطعام، وهو روايةٌ عن أحمد، وأجاز الحنفيّة منفردين الجمع بينها، لأنّه جمعٌ بين جائزين، والمقصود سدّ الخلّة، كما أجازوا دفع القيمة سواءٌ أكانت مالاً أم غيره‏.‏ وقال الشّافعيّة، وهو المذهب عند الحنابلة‏:‏ يجب التّمليك ولا تجزئ الإباحة، فلو غدّى المساكين أو عشّاهم لا يجزئ، لأنّ المنقول عن الصّحابة الإعطاء، ولأنّه مالٌ واجبٌ للفقراء شرعاً، فوجب تمليكهم إيّاه كالزّكاة‏.‏

الإطعام في الفدية

أ - فدية الصّيام‏:‏

14 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - وهو المرجوح عند المالكيّة - على أنّه يصار إلى الفدية في الصّيام عند اليأس من إمكان قضاء الأيّام الّتي أفطرها لشيخوخةٍ لا يقدر معها على الصّيام، أو مرضٍ لا يرجى برؤه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ‏}‏ والمراد من يشقّ عليهم الصّيام‏.‏ والمشهور عند المالكيّة أنّه لا فدية عليه‏.‏

ب - الإطعام في فدية الصّيد

15 - يخيّر المحرم إذا قتل صيداً بين ثلاثة أشياء‏:‏ إمّا شراء هديٍ بالقيمة وذبحه، أو الإطعام بالقيمة، أو الصّيام، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هدياً بالغ الكعبة، أو كفّارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً‏}‏ ومن قتل ما ليس له مثلٌ أو قيمةٌ كالجراد والقمل، تصدّق بما شاء كحفنةٍ من طعامٍ للواحدة وحفنتين للاثنتين‏.‏ وهذا في الجملة، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح - ‏(‏إحرامٌ‏)‏ - ‏(‏فديةٌ‏)‏‏.‏

الإطعام في النّفقات الإطعام في حالات الضّرورة

16 - يرى الفقهاء وجوب إطعام المضطرّ المشرف على الهلاك، لأنّ فيه إحياءً لنفسٍ معصومةٍ‏.‏ فإن كان الطّعام ممّا يباع أعطاه بثمن المثل ليس عليه غيره، وإن أخذه بغير إذن صاحبه جاز‏.‏ وضمنه له، إذ القاعدة الشّرعيّة‏:‏ أنّ الاضطرار لا يسقط الضّمان‏.‏ الامتناع عن إطعام المضطرّ‏:‏

17 - إذا فقد المضطرّ الطّعام وأشرف على الهلاك ولم يجد إلاّ طعاماً لغيره، فإن كان صاحب الطّعام مضطرّاً إليه فهو أحقّ به ولم يجز لأحدٍ أن يأخذه منه، لأنّه ساواه في الضّرورة وانفرد بالملك، فأشبه غير حال الضّرورة، وإن أخذه منه أحدٌ فمات أثم وضمن ديته، لأنّه قتله بغير حقٍّ، فإذا لم يكن المالك مضطرّاً إلى الطّعام لزمه بذله للمضطرّ، لحديث أبي هريرة، قلنا‏:‏ «يا رسول اللّه، ما يحلّ لأحدنا من مال أخيه إذا اضطرّ إليه ‏؟‏ قال‏:‏ يأكل ولا يحمل، ويشرب ولا يحمل»‏.‏ فإن منعه قاتل عليه بغير سلاحٍ عند الحنفيّة، وبسلاحٍ عند غيرهم‏.‏ فإن قتل المضطرّ فهو شهيدٌ، وعلى قاتله ضمانه، وإن قتل صاحبه فهو هدرٌ‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏قصاصٌ‏)‏‏.‏ تحديد الإطعام في النّفقة‏:‏

18 - النّفقة الواجبة قد تكون عيناً وقد تكون قيمةً، فإذا كانت عيناً فالواجب من الإطعام - كما في القيمة - يعتبر بحال الزّوجين جميعاً عند المالكيّة والحنابلة، وهو المفتى به عند الحنفيّة، فإن كانا موسرين فإطعام الموسرين، وإن كانا متوسّطين فإطعام الوسط، وإن كان أحدهما معسراً والآخر موسراً فالتّوسّط، وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار، ويعتبر العرف في ذلك، واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏ وذهب الشّافعيّة إلى اعتبار حال الزّوج فقط، واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لينفق ذو سعةٍ من سعته‏}‏ الآية‏.‏ وقد أجاز الحنفيّة استبدال القيمة بالإطعام‏.‏

التّوسعة في الإطعام

19 - يندب إطعام الأقارب الفقراء واليتامى والتّوسعة عليهم، كما يندب بذل الطّعام للمساكين والفقراء والمحتاجين وقت القحط والجوع والحاجة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فكّ رقبةٍ أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيماً ذا مقربةٍ أو مسكيناً ذا متربةٍ‏}‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من موجبات الرّحمة إطعام المسلم السّغبان»‏.‏ كما يندب إطعام الغريب إذا كان ضيفاً أو محتاجاً للإطعام، وقد اعتبر القرآن عدم إطعامه لؤماً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتّى إذا أتيا أهل قريةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما‏}‏‏.‏

إطعام المسجون

20 - لا يضيّق على المحبوس بالجوع أو العطش، سواءٌ أكان حبسه لردّةٍ أم دينٍ أم أسرٍ، لقول عمر في المحبوس للرّدّة‏:‏ فهلاّ حبستموه ثلاثاً فأطعمتموه كلّ يومٍ رغيفاً واستتبتموه»‏.‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً‏}‏ قال مجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ وعطاءٌ‏:‏ فيه دليلٌ على أنّ إطعام أهل الحبوس من المسلمين حسنٌ وقربى إلى اللّه تعالى‏.‏ هذا إذا لم يكن له مالٌ، فإن كان له مالٌ يطعم من ماله، كما تقدّم‏.‏

إطعام الحيوان المحتبس

21 - يجوز حبس حيوانٍ لنفعٍ، كحراسةٍ وسماع صوتٍ وزينةٍ، وعلى حابسه إطعامه وسقيه لحرمة الرّوح ويقوم مقامه التّخلية للحيوانات لترعى وترد الماء إن ألفت ذلك، فإن لم تألفه فعل بها ما تألفه، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عذّبت امرأةٌ في هرّةٍ سجنتها حتّى ماتت فدخلت فيها النّار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» فإن امتنع أجبر على بيعه أو علفه أو ذبح ما يذبح منه‏.‏ فإن لم يفعل ناب الحاكم عنه في ذلك على ما يراه‏.‏ وهذا رأي الشّافعيّة والحنابلة، وهو الرّأي الرّاجح عند الحنفيّة والمالكيّة، وهذه المسألة تجري فيها دعوى الحسبة‏.‏

الإطعام من الأضحيّة

22 - ينبغي للمضحّي أن يطعم الأغنياء الثّلث، والفقراء الثّلث، ويأكل الثّلث من أضحيّته، هذا هو الأفضل عند الحنفيّة والحنابلة، وهو رأيٌ للمالكيّة والشّافعيّة‏.‏ وقيل‏:‏ الأفضل أن يطعمها كلّها الفقراء، وهو رأيٌ للمالكيّة والشّافعيّة، وينظر ‏(‏أضحيّةٌ‏)‏‏.‏

وهدي التّطوّع والمتعة والقران في الحجّ كالأضحيّة، له أن يأكل ويطعم، غير أنّ المالكيّة اشترطوا لجواز أكله منه ألاّ يكون قد نواه للمساكين‏.‏ وأمّا هدي الفدية، وجزاء الصّيد فإنّه يطعم الفقراء فقط، ولا يأكل منه ‏(‏ر‏:‏ هديٌ‏)‏‏.‏

وأمّا في النّذر فإذا لم ينوه للمساكين جاز له الأكل منه عند المالكيّة، وعند بقيّة المذاهب لا يأكل منه‏.‏

إطعام أهل الميّت

23 - يستحبّ إعداد طعامٍ لأهل الميّت، يبعث به إليهم إعانةً لهم وجبراً لقلوبهم، فإنّهم شغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعامٍ لأنفسهم‏.‏ وقد روي عن عبد اللّه بن جعفرٍ أنّه لمّا جاء نعي جعفرٍ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اصنعوا لأهل جعفرٍ طعاماً‏.‏ فإنّه قد جاءهم ما يشغلهم»‏.‏ واشترط المالكيّة فيمن يصنع لهم طعامٌ، ألاّ يكونوا قد اجتمعوا على نياحةٍ أو غيرها من المحرّمات، وإلاّ حرم إرسال طعامٍ لهم، لأنّهم عصاةٌ، وكره الفقهاء إطعام أهل الميّت للنّاس، لأنّ ذلك يكون في السّرور لا في الشّرور‏.‏

المناسبات الّتي يستحبّ الإطعام فيها

24 - أ - النّكاح‏:‏ ويسمّى الإطعام فيه وفي كلّ سرورٍ وليمةً، واستعمال هذه التّسمية في العرس أكثر‏.‏

ب - الختان‏:‏ ويطلق على الإطعام فيه، إعذارٌ أو عذيرةٌ أو عذيرٌ‏.‏

ج - الولادة‏:‏ ويطلق على الإطعام فيها، الخرس أو الخرسة‏.‏

د - البناء للدّار‏:‏ ويطلق على الإطعام فيه‏:‏ وكيرةٌ‏.‏

هـ- قدوم الغائب‏:‏ قدوم الغائب من الحجّ وغيره ويطلق على الإطعام فيه‏:‏ نقيعةٌ‏.‏

و -لأجل الولد‏:‏ ويطلق على الإطعام له، عقيقةٌ‏.‏

ويستحبّ في العرس، أن يطعم شاةً إن أمكن، وكذا يستحبّ عند غير الحنفيّة أن يذبح عن الصّبيّ شاتين إن أمكن، فإن أولم بغير الشّاة جاز، فقد أولم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ، وأولم على صفيّة بحيسٍ وأولم على بعض نسائه بمدّين من شعيرٍ‏.‏ وإجابة طعام الوليمة واجبٌ لمن دعي إليها إذا لم يخالطها حرامٌ، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها»‏.‏

القدرة على الإطعام

25 - من وجب عليه إطعامٌ في كفّارة يمينٍ أو ظهارٍ أو فطرٍ في رمضان فعجز عن الإطعام، استقرّ ذلك في ذمّته، وتأخّر وجوب الأداء إلى وقت القدرة عليه، لأنّ إيجاب الفعل على العاجز محالٌ، وهذا باتّفاق الفقهاء في غير كفّارة الفطر في رمضان، إذ عند الحنابلة ومقابل الأظهر للشّافعيّة تسقط كفّارة الفطر في رمضان عمّن عجز عنها، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ‏:‏ «خذه واستغفر اللّه وأطعم أهلك» فقد أمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطعمه أهله، ولم يأمره بكفّارةٍ أخرى، ولا بيّن له بقاءها في ذمّته‏.‏ ولا دليل على التّخصيص، بخلاف الكفّارات الأخرى، لعموم أدلّتها للوجوب حال الإعسار، ولأنّه القياس، وقد خولف في رمضان للنّصّ‏.‏ ‏(‏ر - كفّارةٌ‏)‏‏.‏

26 - ويشترط فيمن يجب عليه الإطعام ألاّ يكون سفيهاً، لأنّ السّفيه محجورٌ عليه في ماله ولا يملك التّصرّف فيه، ولو صدر منه ما يوجب الإطعام في كفّارة يمينٍ أو ظهارٍ أو فديةٍ في الحجّ‏.‏ فعند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يكفّر بالصّوم ولا يكفّر بالإطعام، لأنّه ممنوعٌ من ماله، ورأى الحنفيّة أنّ محظورات الإحرام الّتي لا يجزئ فيها الصّوم يلزمه فيها الدّم، ولكن لا يمكن من التّكفير في الحال، بل يؤخّر إلى أن يصير رشيداً مصلحاً لماله، فهو بمنزلة الفقير الّذي لا يجد مالاً‏.‏ وعند المالكيّة يلزم ما يجب عليه من إطعامٍ في ماله‏.‏ وينظر وليّه فيه بوجه النّظر‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏سفهٌ، وكفّارةٌ‏)‏‏.‏

الإطعام عن الغير

27 - الإطعام الّذي يجب على المكلّف لفعلٍ يوجب عليه ذلك يعتبر من العبادات الماليّة، والعبادات الماليّة تقبل النّيابة عن المكلّف، ولذلك من أمر غيره أن يطعم عن ظهاره ففعل ذلك الغير صحّ‏.‏ وهذا باتّفاق الفقهاء مع اختلافهم فيما لو أطعم إنسانٌ عن غيره بدون إذنه، حيث صرّح المالكيّة بأنّه لو كفّر عن الحانث رجلٌ بغير أمره أجزأ عنه، لأنّها من الأفعال الّتي يقصد منها مصلحةٌ مع قطع النّظر عن فاعلها فلم تتوقّف على النّيّة، قال ابن عبد البرّ‏:‏ أحبّ إليّ ألاّ يكفّر إلاّ بأمره‏.‏

إطعام الزّوجة من مال زوجها

28 - أجاز الفقهاء للزّوجة التّصدّق بالشّيء اليسير من بيت زوجها من غير إذنه، لحديث السّيّدة عائشة رضي الله عنها مرفوعاً «إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدةٍ كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره‏.‏ بما كسب» ولأنّ العادة السّماح وطيب النّفس به إلاّ أن يمنع ربّ البيت فليس لها ذلك‏.‏

الحلف على الإطعام

29 - حلف على آخر أن يأكل معه فهو على أن يأكل معه ما يطعم على وجه التّطعّم كجبنٍ وفاكهةٍ وخبزٍ، وقيل‏:‏ هو على المطبوخ‏.‏ ويندب إبرار القسم، لما ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أمر بإبرار القسم»‏.‏ فإن أحنثه ولم يأكل معه فالكفّارة على الحالف، لأنّ الحالف هو الحانث، فكانت الكفّارة عليه، كما لو كان هو الفاعل‏.‏ وكذلك إن حلف أن يطعم غيره فهو على ما تقدّم، فإن وفّى لم يحنث وإن لم يوف حنث‏.‏

الوصيّة بالإطعام

30 - الوصيّة بالإطعام إذا أعانت على محرمٍ فهي باطلةٌ في الأصحّ، كالوصيّة بالإطعام بعد الموت ثلاثة أيّامٍ، حيث تجتمع النّائحات، لأنّها من الإعانة على المحرّم، فإذا لم تعن على حرامٍ جازت ووجب إخراجها من تركته في حدود الثّلث، كمن أوصى بالأضحيّة، أو بإطعام الفقراء، أو بفطرة رمضان أو بنذرٍ عليه‏.‏

الوقف على الإطعام

31 - في وقف الطّعام على الإطعام إن قصد بوقفه بقاء عينه لم يصحّ، لأنّه يؤدّي إلى فساد الطّعام وذلك إضاعةٌ للمال، وإن كان على معنى أنّه وقفٌ للقرض إن احتاج إليه محتاجٌ ثمّ يردّ مثله، فقد رأى جمهور الفقهاء‏:‏ ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ جوازه، وإن كان الموقوف أرضاً أو شجرةً ذات ثمرٍ لإطعام ثمرها جاز، لما روي‏:‏ «أنّ عمر رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها غير أنّه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث فتصدّق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرّقاب وفي سبيل اللّه وابن السّبيل والضّيف» فإن كان حيواناً ملك الموقوف عليه صوفه ولبنه وسائر منافعه، وإن كان الوقف لمعصيةٍ أو لأهل الفسق فالأرجح ردّه، لأنّه معصيةٌ‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏وقفٌ‏)‏‏.‏

أطعمةٌ

التعريف

1 - الأطعمة‏:‏ جمع طعامٍ، وهو في اللّغة‏:‏ كلّ ما يؤكل مطلقاً، وكذا كلّ ما يتّخذ منه القوت من الحنطة والشّعير والتّمر‏.‏ ويطلقه أهل الحجاز والعراق الأقدمون على القمح خاصّةً‏.‏ ويقال‏:‏ طعم الشّيء يطعمه ‏(‏بوزن‏:‏ غنم يغنم‏)‏ طعماً ‏(‏بضمٍّ فسكونٍ‏)‏ إذا أكله أو ذاقه‏.‏ وإذا استعمل هذا الفعل بمعنى الذّواق جاز فيما يؤكل وفيما يشرب، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ اللّه مبتليكم بنهرٍ، فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي‏}‏‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ الأوّل‏.‏ ويذكرونه أيضاً في الرّبا يريدون به ‏(‏مطعوم الآدميّين‏)‏ سواءٌ كان للتّغذّي، كالقمح والماء، أم للتّأدّم كالزّيت، أم للتّفكّه كالتّفّاح، أم للتّداوي والإصلاح كالحبّة السّوداء والملح‏.‏ وقد يطلق الفقهاء لفظ ‏"‏ الأطعمة ‏"‏ على ‏(‏كلّ ما يؤكل وما يشرب، سوى الماء والمسكرات‏)‏‏.‏ ومقصودهم‏:‏ ما يمكن أكله أو شربه، على سبيل التّوسّع، ولو كان ممّا لا يستساغ ولا يتناول عادةً، كالمسك وقشر البيض‏.‏ وإنّما استثني الماء لأنّ له باباً خاصّاً باسمه، واستثنيت المسكرات أيضاً، لأنّها يعبّر اصطلاحاً عنها بلفظ ‏(‏الأشربة‏)‏‏.‏ ثمّ إنّ موضوع الأطعمة هو عنوانٌ يدلّ به على ما يباح وما يكره وما يحرم منها‏.‏ وأمّا آداب الأكل والشّرب فإنّها يترجم لها بكلمة ‏(‏الأدب‏)‏ ويرجع إليها في مصطلح ‏(‏أكلٌ، وشربٌ‏)‏‏.‏ كما أنّ الولائم المشروعة يترجم لها بعناوين أخرى تخصّها، كالعقيقة والوكيرة‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إطعامٌ‏)‏‏.‏

تقسيم الأطعمة

2 - تنقسم الأطعمة إلى نوعين‏:‏ حيوانيّةٍ، وغير حيوانيّةٍ‏.‏

ثمّ إنّ الحيوان ينقسم إلى قسمين رئيسين‏:‏ مائيٍّ، وبرّيٍّ‏.‏ وفي كلٍّ من القسمين أنواعٌ فيها ما يؤكل وفيها ما لا يؤكل‏.‏ وينقسم المأكول من الحيوان‏:‏

أوّلاً إلى‏:‏ مباحٍ، ومكروهٍ‏.‏

ثانياً إلى‏:‏ ما تشترط الذّكاة في حلّه، وما لا تشترط‏.‏

3 - والمقصود بالحيوان في هذا المقام أنواع الحيوان جميعاً ممّا يجوز للإنسان أكله شرعاً أو لا يجوز، ولا يراد به ما يشمل الإنسان نفسه بالنّسبة للإنسان، بل الكلام محصورٌ فيما يحلّ للإنسان أو لا يحلّ، باعتبار أنّ ما سوى الإنسان قد خلقه اللّه سبحانه لمنفعة الإنسان ومصلحته، فمنه ما ينتفع به الإنسان بالأكل وغيره، ومنه ما ينتفع به لغير الأكل من وجوه المنافع‏.‏

4 - أمّا الإنسان نفسه، الّذي هو أشرف الحيوان جميعاً والّذي سخّر له كلّ ما عداه، فلا يدخل لحمه في مفهوم الأطعمة وتقسيمها إلى حلالٍ وحرامٍ، لكرامته في نظر الشّريعة الإسلاميّة، أيّاً كانت سلالته ولونه ودينه وبيئته‏.‏ فحرمة لحمه على بني جنسه معلومةٌ من الدّين بالضّرورة، ومصرّحٌ بها في مواضع مختلفةٍ من كتب الفقه‏.‏ ولذلك لا يبحث الفقهاء عن حرمة لحمه في باب الأطعمة، وإنّما يذكر ذلك في حالات الاضطرار الاستثنائيّة‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏ضرورةٌ‏)‏‏.‏

5 - ويجب التّنبّه إلى أنّ الحيوانات غير المأكول يعبّر الفقهاء عادةً عن عدم جواز أكلها بإحدى العبارات التّالية‏:‏ ‏"‏ لا يحلّ أكلها ‏"‏، ‏"‏ يحرم أكلها ‏"‏، ‏"‏ غير مأكولٍ ‏"‏، ‏"‏ يكره أكلها، وهذه العبارة الأخيرة تذكر في كتب الحنفيّة في أغلب الأنواع، ويراد بها الكراهة التّحريميّة عندما يكون دليل حرمتها في نظرهم غير قطعيٍّ‏.‏ فالحيوانات غير المأكولة واحدٌ منها حرمة أكله قطعيّةٌ إجماعيّةٌ، وهو الخنزير‏.‏ وفي بقيّتها خلافٌ قويٌّ أو ضعيفٌ، فيصحّ وصفها بالحرمة أو بالكراهة ‏(‏التّحريميّة‏)‏‏.‏

الحكم التّكليفيّ

6 - الحكم التّكليفيّ ليس منصّباً على ذوات الأطعمة، وإنّما على أكلها أو استعمالها، وليس هناك حكمٌ جامعٌ للأطعمة كلّها، لذلك سيذكر حكم كلّ نوعٍ عند الكلام عليه‏.‏ ويتبيّن لمن تتبّع ما في كتب الفقه المختلفة في أبواب الأطعمة وغيرها أنّ الأصل في الأطعمة الحلّ، ولا يصار إلى التّحريم إلاّ لدليلٍ خاصٍّ، وأنّ لتحريم الأطعمة بوجهٍ عامٍّ - ولو غير حيوانيّةٍ - أسباباً عامّةً عديدةً في الشّريعة متّصلةً بقواعدها العامّة ومقاصدها في إقامة الحياة الإنسانيّة على الطّريق الأفضل‏.‏ وكذلك يرى المتتبّع أسباباً لكراهة الأطعمة بوجهٍ عامٍّ غير الأسباب المتعلّقة بأنواع الحيوان‏.‏ وسنعرض فيما يلي بإيجازٍ أمثلةً لذلك ما يحرم أكله لأسبابٍ مختلفةٍ‏:‏

7 - يظهر من الاستقراء وتتبّع تعليلات فقهاء المذاهب فيما يحكمون بحرمة أكله أنّه يحرم أكل الشّيء مهما كان نوعه لأحد أسباب خمسةٍ‏:‏

السّبب الأوّل‏:‏ الضّرر اللاّحق بالبدن أو العقل ولهذا أمثلةٌ كثيرةٌ

8 - منها‏:‏ الأشياء السّامّة سواءٌ أكانت حيوانيّةً كالسّمك السّامّ، وكالوزغ والعقارب والحيّات السّامّة والزّنبور والنّحل، وما يستخرج منها من موادّ سامّةٍ‏.‏ أم كانت نباتيّةً كبعض الأزهار والثّمار السّامّة‏.‏ أم جماديّةً كالزّرنيخ، فكلّ هذه تحرم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏، ولقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من تحسّى سمّاً فقتل نفسه فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً»‏.‏ لكن صرّح المالكيّة والحنابلة بأنّ هذه السّموم إنّما تحرم على من تضرّه‏.‏ وهذا ظاهرٌ فإنّ كثيراً من الأدوية الّتي يصفها الأطبّاء محتويةٌ على السّموم بالقدر الّذي لا يضرّ الإنسان، بل يفيده ويقتل جراثيم الأمراض، كما أنّ تأثّر الأشخاص بالسّموم أنواعاً ومقادير يختلف‏.‏ وهذا لا تأباه قواعد المذاهب الأخرى، حيث المفهوم أنّ المحرّم هو تعاطي القدر الضّارّ من هذه السّموم‏.‏

9 - ومنها‏:‏ الأشياء الضّارّة وإن لم تكن سامّةً، وقد ذكر منها في كتب الفقه‏:‏ الطّين، والتّراب، والحجر، والفحم على سبيل التّمثيل، وإنّما تحرم على من تضرّه‏.‏ ولا شكّ أنّ هذا النّوع يشمل ما كان من الحيوان أو النّبات أو الجماد‏.‏ ويعرف الضّارّ من غير الضّارّ من أقوال الأطبّاء والمجرّبين‏.‏ ولا فرق في الضّرر الحاصل بالسّميّات أو سواها بين أن يكون مرضاً جسمانيّاً أيّاً كان نوعه، أو آفةً تصيب العقل كالجنون والخبل‏.‏ وذكر المالكيّة في الطّين قولين‏:‏ الحرمة، والكراهة، وقالوا‏:‏ إنّ المعتمد الحرمة، وذكر الشّافعيّة حرمة الطّين والحجر على من يضرّانه، وذكر الحنابلة كراهة الفحم، والتّراب، والطّين الكثير الّذي لا يتداوى به‏.‏ وعلّل صاحب ‏"‏ مطالب أولي النّهى ‏"‏ الكراهة بالضّرر، مع أنّه قبل ذلك جعل الضّرر سبباً للتّحريم‏.‏

السّبب الثّاني‏:‏ الإسكار أو التّخدير أو التّرقيد

10 - فيحرم المسكر، وهو ما غيّب العقل دون الحواسّ مع نشوةٍ وطربٍ، كالخمر المتّخذ من عصير العنب النّيء، وسائر المسكرات، سواءٌ أكانت من غير الحيوان كالنّبيذ الشّديد المسكر، أم من الحيوان كاللّبن المخيض الّذي ترك حتّى تخمّر وصار مسكراً‏.‏ ويحرم أكل كلّ شيءٍ مخدّرٍ ‏(‏ويقال له‏:‏ المفسد‏)‏، وهو ما غيّب العقل دون الحواسّ بلا نشوةٍ وطربٍ، كالحشيشة‏.‏ ويحرم أيضاً المرقّد وهو ما غيّب العقل والحواسّ معاً، كالأفيون والسّيكران‏.‏ فما كان من المسكرات الّتي تشرب شرباً فإنّه يتبع موضوع الأشربة، ويرى تفصيل أحكامه فيها، وقد يشار إليه هنا بمناسبة الضّرر‏.‏ وما كان من المخدّرات أو المرقّدات الجامدة الّتي تؤكل أكلاً فإنّه يدخل في موضوع الأطعمة هنا، وقد يذكر في موضوع الأشربة بالمناسبة‏.‏

السّبب الثّالث‏:‏ النّجاسة

11 - فيحرم النّجس والمتنجّس ما لا يعفى عنه‏:‏ - فالنّجس كالدّم‏.‏ - والمتنجّس كالسّمن الّذي ماتت فيه الفأرة وكان مائعاً فإنّه يتنجّس كلّه، فإن كان جامداً ينجّس ما حول الفأرة فقط، فإذا طرح ما حولها حلّ أكل باقيه‏.‏ ومن أمثلة المتنجّس عند الحنابلة‏:‏ ما سقط أو سمّد بنجسٍ، من زرعٍ وثمرٍ، فهو محرّمٌ لتنجّسه، ولا يحلّ حتّى يسقى بعد ذلك بماءٍ طاهرٍ يستهلك عين النّجاسة، ونقل في الإنصاف عن ابن عقيلٍ قوله‏:‏ ليس بنجسٍ ولا محرّمٍ، بل يطهر بالاستحالة، كالدّم يستحيل لبناً، وجزم به في التّبصرة‏.‏ وممّا يذكر هنا أنّ روث ما يؤكل لحمه طاهرٌ، فالتّسميد به لا يحرّم الزّرع‏.‏ وصرّح الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المسقيّ المذكور أنّه لا يتنجّس ولا يحرم‏.‏ ومن أمثلة المتنجّس - على خلافٍ بين الفقهاء - البيض الّذي سلق بماءٍ نجسٍ، وتفصيله في ‏(‏بيضٌ‏)‏‏.‏

السّبب الرّابع‏:‏ الاستقذار عند ذوي الطّباع السّليمة

12 - ومثّل له الشّافعيّة بالبصاق والمخاط والعرق والمنيّ، فكلّ هذه طاهرةٌ من الإنسان، ولكن يحرم تناولها للاستقذار‏.‏ واستثنوا ما كان الاستقذار فيه لعارضٍ كغسالة يدٍ فلا تحرم‏.‏ ومثل الحنابلة للمستقذرات بالرّوث والبول والقمل والبرغوث‏.‏ وممّا ينبغي التّنبّه له أنّ الحنابلة يقولون‏:‏ إنّ روث ما يؤكل لحمه طاهرٌ، وكذا بوله، ولكن يحرم تناولهما للاستقذار‏.‏ فالقذارة لا تنافي الطّهارة إذ ليس كلّ طاهرٍ يجوز أكله‏.‏

السّبب الخامس‏:‏ عدم الإذن شرعاً لحقّ الغير

13 - من أمثلة هذا السّبب أن يكون الطّعام غير مملوكٍ لمن يريد أكله، ولم يأذن له فيه مالكه ولا الشّارع، وذلك المغصوب أو المسروق أو المأخوذ بالقمار أو بالبغاء‏.‏ بخلاف ما لو أذن فيه الشّارع، كأكل الوليّ مال مولّيه بالمعروف، وأكل ناظر الوقف من مال الوقف‏.‏ وأكل المضطرّ من مال غيره، فإنّهم مأذونون من الشّارع، كما سيأتي في الكلام عن حالة الاضطرار‏.‏ وفي قضيّة عدم الإذن الشّرعيّ إذا تعلّق بالحيوان الّذي يحلّ أكله يفرّق جمهور الفقهاء بين صحّة التّذكية وحرمة الفعل غير المأذون بالنّسبة للفاعل‏.‏ فإذا غصب مسلمٌ أو كتابيٌّ شاةً مثلاً، أو سرقها فذبحها بصورةٍ مستوفيةٍ شرائطها، فإنّ الذّبيحة تكون لحماً طاهراً مأكولاً، ولكنّ الذّابح يكون متعدّياً بذبحها دون إذنٍ من صاحبها ولا إذن الشّرع، وهو ضامنٌ لها‏.‏ وكذلك لا يحلّ له ولا لغيره أكل شيءٍ من لحمها دون إذنٍ أيضاً لمانع حقّ الغير‏.‏ وللتّفصيل ينظر في‏:‏ ‏(‏غصبٌ‏)‏ ‏(‏وذبائح‏)‏‏.‏

ما يكره أكله لأسبابٍ مختلفةٍ

14 - ذكر الفقهاء أمثلةً للأطعمة المكروهة، منها الأمثلة التّالية‏:‏

أ - البصل والثّوم والكرّاث ونحوها من ذوات الرّائحة الكريهة، فيكره أكل ذلك، لخبث رائحته ما لم يطبخ، فإن أكله كره دخوله المسجد حتّى يذهب ريحه، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا - أو ليعتزل مسجدنا - وليقعد في بيته» وصرّح أحمد بن حنبلٍ أنّ الكراهة لأجل الصّلاة في وقت الصّلاة‏.‏

ب - الحبّ الّذي داسته الحمر الأهليّة أو البغال، وينبغي أن يغسل‏.‏

ج - ماء البئر الّتي بين القبور وبقلها، لقوّة احتمال تسرّب التّلوّث إليها‏.‏

د - اللّحم النّيء واللّحم المنتن، قال صاحب ‏"‏ الإقناع ‏"‏ من الحنابلة بكراهتهما، لكنّ الرّاجح عند الحنابلة عدم الكراهة‏.‏ الحيوان المائيّ‏:‏ حلاله وحرامه‏:‏

15 - المقصود بالحيوان المائيّ ما يعيش في الماء، ملحاً كان أو عذباً، من البحار أو الأنهار أو البحيرات أو العيون أو الغدران أو الآبار أو المستنقعات أو سواها‏.‏ ولا يحلّ عند الحنفيّة من الحيوان المائيّ شيءٌ سوى السّمك فيحلّ أكله سواءٌ أكان ذا فلوسٍ ‏(‏قشّر‏)‏ أم لا‏.‏ وهناك صنفان من الحيوان المائيّ اختلف فيهما الحنفيّة، للاختلاف في كونهما من السّمك أو من الحيوانات المائيّة الأخرى، وهما الجرّيث، والمارماهيّ‏.‏ فقال الإمام محمّد بن الحسن بعدم حلّ أكلهما، لكنّ الرّاجح عند الحنفيّة الحلّ فيهما، لأنّهما من السّمك‏.‏ ويستثنى من السّمك ما كان طافياً، فإنّه لا يؤكل عندهم‏.‏ والطّافي‏:‏ هو الّذي مات في الماء حتف أنفه، بغير سببٍ حادثٍ، سواءٌ أعلا فوق وجه الماء أم لم يعل، وهو الصّحيح‏.‏

وإنّما يسمّى طافياً إذا مات بلا سببٍ ولو لم يعل فوق سطح الماء نظراً إلى الأغلب، لأنّ العادة إذا مات حتف أنفه أن يعلو ‏.‏ وإنّ حكمة تحريم الطّافي احتمال فساده وخبثه حينما يموت حتف أنفه ويرى طافياً لا يدرى كيف ومتى مات ‏؟‏ فأمّا الّذي قتل في الماء قتلاً بسببٍ حادثٍ فلا فرق بينه وبين ما صيد بالشّبكة وأخرج حتّى مات في الهواء‏.‏ وإذا ابتلعت سمكةٌ سمكةً أخرى فإنّ السّمكة الدّاخلة تؤكل، لأنّها ماتت بسببٍ حادثٍ هو ابتلاعها‏.‏ وإذا مات السّمك من الحرّ أو البرد أو كدر الماء ففيه روايتان عند الحنفيّة‏:‏

إحداهما ‏:‏ أنّه لا يؤكل، لأنّ هذه الأمور الثّلاثة ليست من أسباب الموت غالباً، فالظّاهر أنّ السّمك فيها مات حتف أنفه فيعتبر طافياً‏.‏

والثّانية ‏:‏ أنّه يؤكل، لأنّ هذه الأمور الثّلاثة أسبابٌ للموت في الجملة فيكون ميّتاً بسببٍ حادثٍ فلا يعتبر طافياً، وهذا هو الأظهر، وبه يفتى‏.‏ وإذا أخذ السّمك حيّاً لم يجز أكله حتّى يموت أو يمات‏.‏ واستدلّ من حرّم الطّافي بالأدلّة التّالية‏:‏

أ - بحديث أبي داود عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه»‏.‏ وروى نحوه سعيد بن منصورٍ عن جابرٍ مرفوعاً أيضاً‏.‏

ب - بآثارٍ عن جابر بن عبد اللّه، وعن ابن أبي طالبٍ، وعبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهم‏:‏ أنّهم نهوا عن أكل الطّافي‏.‏ ولفظ جابرٍ في روايةٍ‏:‏ «ما طفا فلا تأكلوه، وما كان على حافّتيه أو حسر عنه فكلوه»‏.‏ وفي روايةٍ أخرى‏:‏ «ما حسر الماء عن ضفّتي البحر فكل، وما مات فيه طافياً فلا تأكل»‏.‏ ولفظ عليٍّ‏:‏ «ما طفا من صيد البحر فلا تأكلوه»‏.‏ ولفظ ابن عبّاسٍ‏:‏ «لا تأكل منه - أي من سمكٍ وفي البحر - طافياً»‏.‏

16 - وذهب من عدا الحنفيّة إلى إباحة كلّ حيوانات البحر بلا تذكيةٍ ولو طافيةً حتّى ما تطول حياته في البرّ، كالتّمساح والسّلحفاة البحريّة، والضّفدع والسّرطان البحريّين‏.‏ ولا يعدّ الفقهاء طير الماء بحريّاً، لأنّه لا يسكن تحت سطح الماء، وإنّما يكون فوقه وينغمس فيه عند الحاجة ثمّ يطير، ولهذا لا يحلّ عندهم إلاّ بالتّذكية‏.‏ وللمالكيّة في كلب البحر وخنزيره قولٌ بالإباحة، وآخر بالكراهة، والرّاجح في كلب الماء الإباحة، وفي خنزيره الكراهة، - أي الكراهة التّنزيهيّة عند الحنفيّة -‏.‏

واختلفوا في إنسان الماء، فمنهم من حرّمه ومنهم من أباحه، وهو الرّاجح، وصرّح المالكيّة بجواز قلي السّمك وشيّه من غير شقّ بطنه ولو حيّاً‏.‏ قالوا‏:‏ ولا يعدّ هذا تعذيباً، لأنّ حياته خارج الماء كحياة المذبوح‏.‏

17 - ويستحبّ عند الشّافعيّة ذبح ما تطول حياته كسمكةٍ كبيرةٍ‏.‏ ويكون الذّبح من جهة الذّيل في السّمك، ومن العنق فيما يشبه حيوان البرّ‏.‏ فإذا لم يكن ممّا تطول حياته كره ذبحه وقطعه حيّاً‏.‏ وهذا التّعميم في الحلّ هو أصحّ الوجوه عندهم‏.‏ وهناك سواه وجهان آخران‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّه لا يحلّ من حيوان البحر سوى السّمك كمذهب الحنفيّة‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ ما يؤكل مثله في البرّ كالّذي على صورة الغنم يحلّ، وما لا يؤكل مثله في البرّ كالّذي على صورة الكلب والحمار لا يحلّ‏.‏ ويحرم عند الشّافعيّة الحيوان ‏(‏البرمائيّ‏)‏ أي الّذي يمكن عيشه دائماً في كلٍّ من البرّ والبحر إذا لم يكن له نظيرٌ في البرّ مأكولٌ‏.‏ وقد مثّلوا له بالضّفدع، والسّرطان، والحيّة، والنّسناس، والتّمساح، والسّلحفاة‏.‏ وتحريم هذا النّوع البرمائيّ هو ما جرى عليه الرّافعيّ والنّوويّ في ‏"‏ الرّوضة ‏"‏ وأصلها واعتمده الرّمليّ‏.‏ لكن صحّح النّوويّ في ‏"‏ المجموع ‏"‏ أنّ جميع ما يكون ساكناً في البحر فعلاً تحلّ ميتته، ولو كان ممّا يمكن عيشه في البرّ، إلاّ الضّفدع، وهذا هو المعتمد عند الخطيب وابن حجرٍ الهيتميّ، وزادا على الضّفدع كلّ ما فيه سمٌّ‏.‏ وعلى هذا فالسّرطان والحيّة والنّسناس والتّمساح والسّلحفاة إن كانت هذه الحيوانات ساكنة البحر بالفعل تحلّ، ولا عبرة بإمكان عيشها في البرّ، وإن كانت ساكنة البرّ بالفعل تحرم‏.‏ واختلفوا في الدّنيلس‏:‏ فأفتى ابن عدلان بحلّه، ونقل عن الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام الإفتاء بتحريمه‏.‏ ولا يعتبر الإوزّ والبطّ ممّا يعيش في البرّ والبحر، لأنّها لا تستطيع العيش في البحر دائماً، فهي من طيور البرّ، فلا تحلّ إلاّ بالتّذكية كما يأتي ‏(‏ف 41‏)‏‏.‏ ويكره عند الشّافعيّة ابتلاع السّمك حيّاً إذا لم يضرّ، وكذا أكل السّمك الصّغير بما في جوفه، ويجوز قليه وشيّه من غير شقّ بطنه، لكن يكره ذلك إن كان حيّاً، وأيّاً ما كان فلا يتنجّس به الدّهن‏.‏

18 - وذهب الحنابلة في الحيوان البرمائيّ، ككلب الماء والسّلحفاة والسّرطان إلى أنّه إنّما يحلّ بالتّذكية‏.‏ وزادوا بالإضافة للضّفدع استثناء الحيّة والتّمساح، فقالوا بحرمة الثّلاثة‏:‏ فالضّفدع للنّهي عن قتلها، والحيّة لاستخباثها، والتّمساح لأنّ له ناباً يفترس به‏.‏ لكنّهم لم يستثنوا سمك القرش فهو حلالٌ، وإن كان له نابٌ يفترس به‏.‏ والظّاهر أنّ التّفرقة بينهما مبنيّةٌ على أنّ القرش نوعٌ من السّمك لا يعيش إلاّ في البحر بخلاف التّمساح‏.‏ وقد قالوا‏:‏ إنّ كيفيّة ذكاة السّرطان أن يفعل به ما يميته، بأن يعقر في أيّ موضعٍ كان من بدنه‏.‏ وإذا أخذ السّمك حيّاً لم يجز أكله حتّى يموت أو يمات، كما يقول الحنفيّة والحنابلة‏.‏ ويكره شيّه حيّاً، لأنّه تعذيبٌ بلا حاجةٍ، فإنّه يموت سريعاً فيمكن انتظار موته‏.‏

19 - وفي حيوانات البحر مذاهب أخرى‏:‏ منها أنّ ابن أبي ليلى يقول‏:‏ إنّ ما عدا السّمك منها يؤكل بشريطة الذّكاة واللّيث بن سعدٍ يقول كذلك أيضاً، غير أنّه لا يحلّ عنده إنسان الماء ولا خنزيره، وعن سفيان الثّوريّ في هذا روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ تحريم ما سوى السّمك كمذهب الحنفيّة‏.‏

وثانيهما‏:‏ الحلّ بالذّبح كقول ابن أبي ليلى‏.‏

20 - ودليل الجمهور الّذين أحلّوا كلّ ما يسكن جوف الماء ولا يعيش إلاّ فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي البحران، هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابه وهذا ملحٌ أجاجٌ، ومن كلٍّ تأكلون لحماً طريّاً‏}‏‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة‏}‏، فلم يفرّق عزّ وجلّ بين ما يسمّيه النّاس سمكاً وما يسمّونه باسمٍ آخر كخنزير الماء أو إنسانه، فإنّ هذه التّسمية لا تجعله خنزيراً أو إنساناً‏.‏ ومن أدلّة ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن الوضوء بماء البحر‏:‏ «هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته»‏.‏ وهذا دليلٌ على حلّ جميع الحيوان الّذي يسكن البحر سواءٌ أخذ حيّاً أم ميّتاً، وسواءٌ أكان طافياً أم لا‏.‏ واستدلّوا أيضاً بحديث دابّة العنبر، وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلمٌ عن أبي الزّبير المكّيّ، قال حدّثني جابرٌ، قال‏:‏ «بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأمّر علينا أبا عبيدة، نتلقّى عيراً لقريشٍ، وزوّدنا جراباً من تمرٍ لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرةً تمرةً‏.‏ قال أبو الزّبير‏:‏ فقلت لجابرٍ‏:‏ كيف كنتم تصنعون بها ‏؟‏ قال‏:‏ نمصّها كما يمصّ الصّبيّ، ثمّ نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى اللّيل‏.‏ وكنّا نضرب بعصيّنا الخبط، ثمّ نبلّه بالماء ونأكله‏.‏ قال‏:‏ وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضّخم، فأتيناه فإذا هو دابّةٌ تدعى العنبر‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ميتةٌ ‏؟‏ ثمّ قال‏:‏ لا، بل نحن رسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل اللّه تعالى، وقد اضطررتم، فكلوا‏.‏ فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائةٍ حتّى سمّنّا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدّهن، ونقتطع منه الفدر كالثّور أو كقدر الثّور، فلقد أخذ منّا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً، فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها ثمّ رحل أعظم بعيرٍ معنا فمرّ تحتها‏.‏ وتزوّدنا من لحمه وشائق‏.‏ فلمّا قدمنا المدينة أتينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك، فقال‏:‏ هو رزقٌ أخرجه اللّه تعالى لكم، فهل معكم من لحمه شيءٌ فتطعمونا ‏؟‏، فأرسلنا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منه فأكله»‏.‏ فهذا الحديث يستدلّون به‏:‏ على أربعة أمورٍ‏:‏

أوّلاً‏:‏ على أنّ حيوان البحر من غير السّمك يحلّ أكله في حالتي الاختيار والضّرورة‏.‏

ثانياً‏:‏ على أنّه لا يحتاج إلى ذكاةٍ‏.‏

ثالثاً ‏:‏ على حلّ الطّافي، لأنّه لا يدري هل مات حتف أنفه أو بسبب حادثٍ‏.‏

رابعاً ‏:‏ على أنّ صيد المجوسيّ والوثنيّ للسّمك لا تأثير له، لأنّه إذا كانت ميتته حلالاً فصيد المجوسيّ والوثنيّ والمسلم سواءٌ‏.‏ هذا، والفسيخ إن كان صغيراً كان طاهراً في المذاهب الأربعة، لأنّه معفوٌّ عمّا في بطنه، لعسر تنقية ما فيه، وإن كان كبيراً فهو طاهرٌ عند الحنفيّة والحنابلة وابن العربيّ والدّردير من المالكيّة، خلافاً للشّافعيّة ولجمهور المالكيّة‏.‏ وإذا اعتبر طاهراً فإنّ أكله مع تفسّخه والتّغيّر في رائحته يتبع فيه شرعاً رأي الطّبّ في ضرره أو عدمه‏:‏ فإن قال الأطبّاء الثّقات‏:‏ إنّه ضارٌّ يكون أكله محظوراً شرعاً لضرره بالصّحّة، وإلاّ فلا‏.‏

الحيوان البرّيّ حلاله وحرامه

21 - المقصود بالحيوان البرّيّ‏:‏ ما يعيش في البرّ من الدّوابّ أو الطّيور‏.‏ ويقسم بحسب أنواعه وخصائصه وما يتّصل به من أحكامٍ إلى ثلاثة عشر نوعاً‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ الأنعام

22 - الأنعام ‏(‏بفتح الهمزة‏)‏ جمع نعمٍ ‏(‏بفتحتين‏)‏ وهو اسمٌ يتناول ثلاثة أنواعٍ هي‏:‏ الإبل، والبقر، والغنم، سواءٌ أكانت البقر عراباً أم جواميس، وسواءٌ أكانت الغنم ضأناً أم معزاً، فكلّها حلالٌ بإجماع المسلمين المستند إلى نصوصٍ كثيرةٍ‏.‏ منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع، ومنها تأكلون‏}‏، ومنها قوله جلّ شأنه ‏{‏اللّه الّذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها، ومنها تأكلون‏}‏‏.‏ واسم الأنعام يقع على هذه الحيوانات بلا خلافٍ بين أهل اللّغة‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ الأرنب

23 - الأرنب حلالٌ أكلها عند الجمهور‏.‏ وقد صحّ عن أنسٍ أنّه قال‏:‏ «أنفجنا أرنباً فسعى القوم فلغبوا، فأخذتها وجئت بها أبا طلحة، فذبحها وبعث بوركها - أو قال‏:‏ بفخذها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقبله»‏.‏ وعن محمّد بن صفوان ‏(‏أو صفوان بن محمّدٍ‏)‏ أنّه قال‏:‏ «صدت أرنبين فذبحتهما بمروة، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمرني بأكلهما»‏.‏ ثمّ إنّها من الحيوان المستطاب، وليست ذات نابٍ تفترس به، ولم يرد نصٌّ بتحريمها، فهذه المناطات تستوجب حلّها كما سيرى في الأنواع المحرّمة‏.‏ وقد أكلها سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه ورخّص فيها أبو سعيدٍ الخدريّ وعطاءٌ وابن المسيّب واللّيث وأبو ثورٍ وابن المنذر‏.‏

النّوع الثّالث‏:‏ الحيوانات المفترسة

24 - المراد بالحيوانات المفترسة‏:‏ كلّ دابّةٍ لها نابٌ يفترس به، سواءٌ أكانت أهليّةً كالكلب والسّنّور الأهليّ، أم وحشيّةً كالأسد والذّئب والضّبع والنّمر والفهد والثّعلب والسّنّور الوحشيّ والسّنجاب والفنك والسّمّور والدّلق ‏(‏وهو أبو مقرضٍ‏)‏ والدّبّ والقرد وابن آوى والفيل‏.‏ وحكمها‏:‏ أنّها لا يحلّ شيءٌ منها عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو قولٌ للمالكيّة، غير أنّ الضّبع والثّعلب قال بحلّهما أبو يوسف ومحمّدٌ‏.‏

25 - واستدلّ الجمهور على تحريم هذا النّوع كلّه أو كراهته كراهةً تحريميّةً - بقطع النّظر عن الأمثلة - بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «أكل كلّ ذي نابٍ من السّباع حرامٌ»‏.‏ ومن استثنى الضّبع منهم استدلّ بأخبارٍ كثيرةٍ عن بعض الصّحابة، منها ما ورد من حديث ابن أبي عمّارٍ قال‏:‏ «سألت جابر بن عبد اللّه عن الضّبع أآكلها ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قلت‏:‏ أصيدٌ هي ‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قلت‏:‏ أسمعت ذلك من نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قال‏:‏ نعم»‏.‏ وروي أيضاً من حديث نافعٍ مولى ابن عمر، قال‏:‏ أخبر رجلٌ ابن عمر أنّ سعد بن أبي وقّاصٍ يأكل الضّباع، قال نافعٌ‏:‏ فلم ينكر ابن عمر ذلك‏.‏

26 - والقول المشهور للمالكيّة أنّه‏:‏ يكره تنزيهاً أكل الحيوانات المفترسة سواءٌ أكانت أهليّةً كالسّنّور والكلب، أم متوحّشةً كالذّئب والأسد‏.‏ وللمالكيّة في القرد والنّسناس قولٌ بالإباحة، وهو خلاف المشهور عندهم لكن صحّحه صاحب التّوضيح‏.‏

27 - لكنّ الشّافعيّة أباحوا بعض الأمثلة السّابق ذكرها‏:‏ بالإضافة إلى الضّبع والثّعلب كالسّنجاب والفنك والسّمّور محتجّين بأنّ أنيابها ضعيفةٌ‏.‏ وقالوا في السّنّور الوحشيّ، والأهليّ، وابن آوى، والنّمس، والدّلق‏:‏ إنّها محرّمةٌ في الأصحّ، وقيل في هذه الخمسة الأخيرة كلّها بالحلّ عندهم‏.‏

28 - أمّا الحنابلة فقد أباحوا من الأمثلة السّابقة الضّبع فقط‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ في الثّعلب والسّنّور الوحشيّ روايةً بالإباحة‏.‏

29 - وأمّا المالكيّة فقد استدلّوا بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ الآية فإنّ لحوم السّباع ليست ممّا تضمّنته الآية، فتكون مباحةً، وأمّا ما ورد من النّهي عن أكل كلّ ذي نابٍ فهو محمولٌ على الكراهة‏.‏

النّوع الرّابع‏:‏ كلّ وحشٍ ليس له نابٌ يفترس به وليس من الحشرات

30 - وذلك كالظّباء، وبقر الوحش، وحمر الوحش، وإبل الوحش‏.‏ وهذا النّوع حلالٌ بإجماع المسلمين، لأنّه من الطّيّبات‏.‏ لكن قال المالكيّة‏:‏ إذا تأنّس حمار الوحش صار حكمه حكم الحمار الأهليّ، وحكم الأهليّ سيأتي‏(‏ر‏:‏ ف 46‏)‏‏.‏ فإن عاد إلى التّوحّش رجع مباحاً كما كان‏.‏

النّوع الخامس‏:‏ كلّ طائرٍ له مخلبٌ صائدٌ

31 - وذلك كالبازي والباشق والصّقر والشّاهين والحدأة والعقاب، وهذا النّوع - بقطع النّظر عن الأمثلة - مكروهٌ تحريماً عند الحنفيّة، وحرامٌ في باقي المذاهب، إلاّ عند المالكيّة فقد قالوا في المشهور عنهم‏:‏ إنّ جميع هذه الطّيور مباحةٌ ولو كانت جلاّلةً، وروي عن جماعةٍ منهم عدم جواز أكلها‏.‏ ومال المازريّ لحمل النّهي على التّنزيه‏.‏

32 - ومن أدلّة تحريم هذا النّوع أو كراهته كراهةً تحريميّةً حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كلّ ذي نابٍ من السّباع، وعن كلّ ذي مخلبٍ من الطّير»‏.‏ والمراد مخلبٌ يصيد به، إذ من المعلوم أنّه لا يسمّى ذا مخلبٍ عند العرب إلاّ الصّائد بمخلبه وحده‏.‏ وأمّا الدّيك والعصافير والحمام وسائر ما لا يصيد بمخلبه فلا تسمّى ذوات مخالب في اللّغة، لأنّ مخالبها للاستمساك والحفر بها، وليست للصّيد والافتراس‏.‏ واستدلّ المالكيّة بالحصر الّذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ أو فسقاً أهّل لغير اللّه به‏}‏‏.‏

النّوع السّادس‏:‏ الطّائر الّذي لا يأكل إلاّ الجيف غالباً

33 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على تحريم الغراب الأسود الكبير والغراب الأبقع، إلاّ أنّ الحنفيّة عبّروا بالكراهة التّحريميّة‏.‏ والمقصود واحدٌ، وهو منع الشّارع الأكل، ومعلومٌ أنّ دليل المنع ليس قطعيّاً، وما كان كذلك يصحّ أن يعبّر عنه بالتّحريم وبالكراهة التّحريميّة‏.‏ وكلا النّوعين لا يأكل غالباً إلاّ الجيف، فهما مستخبثان عند ذوي الطّبائع السّليمة، ويدخل في هذا النّوع النّسر، لأنّه لا يأكل سوى اللّحم من جيفٍ وسواها، وإن لم يكن ذا مخلبٍ صائدٍ‏.‏

34 - ويحلّ غراب الزّرع، وهو نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ الزّاغ وهو غرابٌ أسود صغيرٌ، وقد يكون محمرّ المنقار والرّجلين‏.‏

وثانيهما‏:‏ الغداف الصّغير، وهو غرابٌ صغيرٌ لونه كلون الرّماد، وكلاهما يأكل الزّرع والحبّ ولا يأكل الجيف‏.‏ وبحلّهما أيضاً قال الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

35 - وأمّا العقعق، وهو غرابٌ نحو الحمامة حجماً، طويل الذّنب فيه بياضٌ وسوادٌ، فهو حرامٌ عند الجمهور، حلالٌ عند أبي حنيفة، مكروهٌ تحريماً عند أبي يوسف‏.‏ والأصحّ عند الحنفيّة حلّه، لأنّه يخلط فيأكل الجيف والحبّ، فلا يكون مستخبثاً‏.‏

36 - وليست العبرة عند الحنفيّة بالأسماء، ولا بالكبر والصّغر، ولا بالألوان، وإنّما العبرة بنوع غذائه‏:‏ فالّذي لا يأكل إلاّ الجيف غالباً مكروهٌ تحريماً، والّذي يخلط حلالٌ عند أبي حنيفة خلافاً لأبي يوسف، والّذي لا يأكل الجيف حلالٌ اتّفاقاً، هذا مذهب الحنفيّة‏.‏

37 - والمالكيّة أباحوا الغربان كلّها من غير كراهةٍ على المشهور‏.‏ وروي عن جماعةٍ منهم عدم جواز آكلة الجيف‏.‏

38 - وحجّة القائلين بتحريم الغربان أو كراهتها التّحريميّة ‏(‏إلاّ ما استثني‏)‏ حديث عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خمسٌ فواسق تقتلن في الحلّ والحرم‏:‏ الحيّة، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحديّا»‏.‏ وحديث عائشة رضي الله عنها أيضاً أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خمسٌ من الدّوابّ كلّهنّ فاسقٌ، يقتلن في الحرم‏:‏ الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خمسٌ من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناحٌ‏:‏ الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور»‏.‏ فالغراب الأبقع الّذي ذكر في الحديث أبيح قتله، وكذا سائر الغربان الّتي يدلّ عليها عموم لفظ ‏"‏ الغراب ‏"‏ في الأحاديث الأخرى‏.‏ وما أبيح قتله فلا ذكاة له، لأنّ كلمة القتل متى أطلقت تنصرف إلى إزهاق الرّوح بأيّة وسيلةٍ استطاعها الإنسان، فلو حلّ بالذّكاة لكان إزهاق روحه بغيرها إضاعةً للمال، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال‏.‏ وقد روى ابن أبي شيبة عن عروة رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ من يأكل الغراب وقد سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاسقاً ‏؟‏ وروى عبد الرّزّاق عن الزّهريّ أنّه قال‏:‏ كره رجالٌ من أهل العلم أكل الحداء والغراب حيث سمّاهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من فواسق الدّوابّ الّتي تقتل في الحرم‏.‏

39 - وحجّة المالكيّة أنّ إباحة القتل لا دلالة فيها على تحريم الأكل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ومعلومٌ أنّ الغراب ليس في الآية، فيكون مباح الأكل‏.‏

40 - وحجّة من استثنى إباحة بعض الأنواع من الغربان أنّ الأحاديث الّتي ورد فيها وصف الغراب بالأبقع أشعرت أنّ الغراب المذكور هو المتّصف بصفةٍ توجب خبثه، وقد لوحظ أنّ هذه الصّفة هي كونه لا يأكل إلاّ الجيفة غالباً، فحملت الأحاديث المطلقة عليه، ثمّ ألحق بالأبقع ما ماثله وهو الغداف الكبير‏.‏ واختلفوا في العقعق تبعاً لاختلاف أنظارهم في كونه يكثر من أكل الجيفة أو لا يكثر‏.‏

النّوع السّابع‏:‏ كلّ طائرٍ ذي دمٍ سائلٍ، وليس له مخلبٌ صائدٌ، وليس أغلب أكله الجيف

41 - وذلك كالدّجاج، والبطّ، والإوزّ، والحمام مستأنساً ومتوحّشاً، والفواخت، والعصافير، والقبج، والكركيّ، والخطّاف، والبوم، والدّبسيّ، والصّلصل، واللّقلق، واللّحام، والهدهد، والصّرد، والخفّاش ‏(‏الوطواط‏)‏‏.‏ فكلّ هذا مأكولٌ عند الحنفيّة‏.‏

42 - وقال المالكيّة بإباحة هذا النّوع كلّه ولو جلاّلةً في المشهور عنهم، إلاّ الخفّاش فالمشهور عندهم فيه الكراهة، وقيل بكراهة الهدهد والصّرد، لما رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل أربعٍ من الدّوابّ‏:‏ النّملة، والنّحلة، والهدهد، والصّرد»‏.‏ وقيل بالكراهة في الخطّاف أيضاً، وخصّ بعضهم الكراهة فيه بما يعشّش في البيوت احتراماً لمن عشّش عنده‏.‏

43 - واتّفق الشّافعيّة والحنابلة على التّفصيل التّالي في هذا النّوع، فذكروا أنّه يحرم ما أمر الشّارع بقتله، وما نهى عن قتله، وما استخبث، ويحلّ ما لم يكن كذلك‏.‏ لكنّهم اختلفوا في التّطبيق‏:‏ فالرّخمة والخفّاش واللّقلق والخطّاف والسّنونو تحرم عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ والبغاثة تحرم عند الشّافعيّة‏.‏ والببّغاء والطّاووس يحرمان عند الشّافعيّة لخبث غذائهما، ويحلاّن عند الحنابلة‏.‏ والأخيل، ويسمّى‏:‏ الشّقراق يحرم عند الحنابلة لخبثه، ويحلّ عند الشّافعيّة‏.‏ وأبو زريقٍ، ويسمّى‏:‏ الدّرباب أو القيق، نصّ الحنابلة على تحريمه لخبثه، ومقتضى كلام الشّافعيّة أنّه يحلّ‏.‏ والهدهد والصّرد يحرمان في المذاهب الثّلاثة للنّهي عن قتلهما‏.‏ ويحرم العقعق عند الثّلاثة أيضاً، لأنّه يأكل الجيف كالغراب الأبقع، وقد سبق ذكره ‏(‏ر‏:‏ ف 33‏)‏‏.‏ والنّعامة، والكركيّ، والحبارى، والدّجاج، والبطّ، والإوزّ، والغرنيق، وسائر طيور الماء - سوى اللّقلق - كلّها ممّا يؤكل على المذاهب الثّلاثة، وكذا الحمام، وهو اسمٌ لكلّ ما عبّ وهدر كالقمريّ، والدّبسيّ، واليمام، والفواخت، والقطا، والحجل‏.‏ وكذلك العصفور وكلّ ما على شكله، كالعندليب المسمّى بالهزار، والصّعوة، والزّرزور، حلالٌ في المذاهب الثّلاثة، لأنّها معدودةٌ من الطّيّبات، ‏(‏كما يقول الحنفيّة، وإن كان هؤلاء يقولون بالكراهة التّنزيهيّة في بعضٍ منها على ما سبق بيانه‏)‏‏.‏

النّوع الثّامن‏:‏ الخيل

44 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة، وهو قولٌ للمالكيّة إلى إباحة الخيل، سواءٌ أكانت عراباً أم براذين‏.‏ وحجّتهم حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما، قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأذن في لحوم الخيل»‏.‏ وحديث أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالت‏:‏ «نحرنا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه ونحن بالمدينة»‏.‏ وذهب الحنفيّة في الرّاجح عندهم، وهو قولٌ ثانٍ للمالكيّة، إلى حلّ أكلها مع الكراهة التّنزيهيّة‏.‏ وحجّتهم هي اختلاف الأحاديث المرويّة في الباب واختلاف السّلف، فذهبوا إلى كراهة الخيل احتياطاً، ولأنّ في أكلها تقليل آلة الجهاد‏.‏

45 - وبناءً على الكراهة التّنزيهيّة يقرّر الحنفيّة‏:‏ أنّ سؤر الفرس ولبنها طاهران، لأنّ كراهة أكل الخيل ليست لنجاستها، بل لاحترامها، لأنّها آلة الجهاد، وفي توفيرها إرهاب العدوّ، كما يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ اللّه وعدوّكم‏}‏‏.‏ وذهب أبو حنيفة في رواية الحسن بن زيادٍ عنه إلى الكراهة التّحريميّة، ونحوه قولٌ للمالكيّة بالتّحريم، وبه جزم خليلٌ في مختصره‏.‏ وحجّتهم قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً‏}‏ فالاقتصار على الرّكوب والزّينة يدلّ على أنّها ليست مأكولةً، إذ لو كانت مأكولةً لقال‏:‏ ومنها تأكلون، كما قال قبل ذلك‏:‏ ‏{‏والأنعام خلقها، لكم فيها دفءٌ ومنافع، ومنها تأكلون‏}‏‏.‏ وكذا الحديث المرويّ عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، وكلّ ذي نابٍ من السّباع، وكلّ ذي مخلبٍ من الطّير»‏.‏ ولمّا كانت دلالة الآية والحديث على التّحريم غير قطعيّةٍ كان الحكم هو الكراهة التّحريميّة عند الحنفيّة‏.‏ ولا مانع من تسميتها ‏(‏تحريماً‏)‏ بناءً على أنّ التّحريم هو المنع بالمعنى الشّامل لما كان دليله قطعيّاً أو ظنّيّاً‏.‏

النّوع التّاسع‏:‏ الحمار الأهليّ

46 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة - وهو القول الرّاجح للمالكيّة - إلى حرمة أكله‏.‏ ونحوه مذهب الحنفيّة حيث عبّروا بالكراهة التّحريميّة الّتي تقتضي المنع، وسواءٌ أبقي على أهليّته أم توحّش‏.‏ ومن أدلّة التّحريم أو الكراهة التّحريميّة‏:‏ حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر منادياً فنادى‏:‏ إنّ اللّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهليّة فإنّها رجسٌ، فأكفئت القدور وإنّها لتفور باللّحم»‏.‏ وحديث جابر بن عبد اللّه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأذن في لحوم الخيل»‏.‏ وذكر ابن حزمٍ أنّه نقل تحريم الحمر الأهليّة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من طريق تسعةٍ من الصّحابة بأسانيد كالشّمس، فهو نقل تواترٍ لا يسع أحداً خلافه‏.‏ والقول الثّاني للمالكيّة‏:‏ أنّه يؤكل مع الكراهة أي التّنزيهيّة‏.‏

47 - وقد نقل ابن قدامة‏:‏ أنّ الإمام أحمد قال‏:‏ إنّ خمسة عشر من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم كرهوا الحمر الأهليّة، وأنّ ابن عبد البرّ قال‏:‏ لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها، وأنّ ابن عبّاسٍ وعائشة كانا يقولان بظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزيرٍ‏}‏‏.‏ تلاها ابن عبّاسٍ وقال‏:‏ ما خلاّ هذا فهو حلالٌ، وأنّ عكرمة وأبا وائلٍ لم يريا بأكل الحمر بأساً‏.‏ ونقل الكاسانيّ أنّ بشراً المريسيّ قال بإباحتها‏.‏ وصفوة القول أنّ فيها ثلاثة مذاهب‏:‏ الأوّل‏:‏ التّحريم أو الكراهة التّحريميّة‏.‏

والثّاني‏:‏ الكراهة التّنزيهيّة‏.‏

والثّالث ‏:‏ الإباحة‏.‏

النّوع العاشر‏:‏ الخنزير

48 - الخنزير حرامٌ لحمه وشحمه وجميع أجزائه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً، أو دماً مسفوحاً، أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ، أو فسقاً أهّل لغير اللّه به‏}‏‏.‏

49 - قال الألوسيّ‏:‏ ‏(‏خصّ اللّحم بالذّكر مع أنّ بقيّة أجزائه أيضاً حرامٌ، خلافاً للظّاهريّة، لأنّه معظم سما يؤكل من الحيوان، وسائر أجزائه كالتّابع له، ثمّ بيّن الألوسيّ أنّه خصّ لحم الخنزير بالذّكر، مع أنّ بقيّة أجزائه حرامٌ، لإظهار حرمة ما استطابوه وفضّلوه على سائر اللّحوم واستعظموا وقوع تحريمه‏)‏‏.‏

50 - والضّمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ‏}‏، في لغة العرب الّتي نزل بها القرآن راجعٌ إلى أقرب مذكورٍ إليه وهو الخنزير نفسه، فصحّ بالقرآن أنّ الخنزير بعينه رجسٌ، فهو كلّه رجسٌ وبعض الرّجس رجسٌ، والرّجس حرامٌ واجبٌ اجتنابه، فالخنزير كلّه حرامٌ، لا يخرج من ذلك شعره ولا غيره‏.‏

النّوع الحادي عشر‏:‏ الحشرات

51 - الحشرات قد تطلق لغةً على الهوامّ فقط، وقد تطلق على صغار الدّوابّ كافّةً ممّا يطير أو لا يطير‏.‏ والمراد هنا المعنى الثّاني الأعمّ‏.‏ والحشرات تنقسم إلى قسمين‏:‏

أ‏:‏ ما له دمٌ سائلٌ ‏(‏ذاتيٌّ‏)‏ ومن أمثلته‏:‏ الحيّة، والفأرة، والخلد، والضّبّ، واليربوع، وابن عرسٍ، والقنفذ‏.‏

ب‏:‏ ما ليس له دمٌ سائلٌ ‏(‏ذاتيٌّ‏)‏ ومن أمثلته‏:‏ الوزغ، والعقرب، والعظاءة، والحلزون البرّيّ، والعنكبوت، والقراد، والخنفساء، والنّمل، والبرغوث، والجراد، والزّنبور، والذّباب والبعوض‏.‏

52 - وهذا التّقسيم في الحشرات إلى ذوات دمٍ سائلٍ وغير سائلٍ لا تأثير له في كونها مأكولةً أو غير مأكولةٍ في موضوع الأطعمة هنا، ولكنّ له تأثيراً في موضوعٍ آخر هو نجاستها وطهارتها، فذات الدّم السّائل تنجس ميتتها‏.‏ وتتنجّس بها المائعات القليلة، بخلاف ما ليس لها دمٌ سائلٌ، ولذلك جمع النّوعان في موضوع الأطعمة هنا لوحدة الحكم فيهما من حيث جواز الأكل أو عدمه‏.‏ ولمّا كان لكلٍّ من الجراد والضّبّ والدّود حكمٌ خاصٌّ بكلٍّ منها حسن إفراد كلٍّ منها على حدةٍ‏.‏

الجراد

53 - أجمعت الأمّة على حلّ الجراد، وقد ورد في حلّه الحديث القائل‏:‏ «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فأمّا الميتتان‏:‏ فالجراد والحوت، وأمّا الدّمان‏:‏ فالطّحال والكبد»‏.‏ - وذهب الجمهور إلى أنّه لا حاجة إلى تذكية الجراد‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا بدّ من تذكيته بأن يفعل به ما يعجّل موته بتسميةٍ ونيّةٍ‏.‏ وممّا ينبغي التّنبّه له أنّ الشّافعيّة كرهوا ذبح الجراد وقطعه حيّاً‏.‏ وصرّحوا بجواز قليه ميتاً دون إخراج ما في جوفه، ولا يتنجّس به الدّهن‏.‏ ويحرم عندهم قليه وشيّه حيّاً على الرّاجح لما فيهما من التّعذيب، وقيل‏:‏ يحلّ ذلك فيه كما يحلّ في السّمك، ولكنّ هذا القول عندهم ضعيفٌ، لأنّ حياة الجراد مستقرّةٌ ليست كحياة المذبوح، بخلاف السّمك الّذي خرج من الماء، فإنّ حياته كحياة المذبوح‏.‏ وخالف الحنابلة في قليه وشيّه حيّاً، فذهبوا إلى مثل القول الثّاني للشّافعيّة، وهو إباحتهما، وإن كان فيهما تعذيبٌ، لأنّه تعذيبٌ للحاجة، فإنّ حياته قد تطول فيشقّ انتظار موته‏.‏ الضّبّ‏:‏

54 - اختلف الفقهاء في الضّبّ‏:‏ فذهب الجمهور إلى إباحته، واستدلّوا بالحديث المرويّ عن «عبد اللّه بن عبّاسٍ، قال‏:‏ دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتي بضبٍّ محنوذٍ، فرفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يده، فقلت‏:‏ أحرامٌ هو يا رسول اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكنّه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه‏.‏ قال خالدٌ‏:‏ فاجتررته فأكلته ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينظر»‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى تحريمه، واحتجّ بالحديث المرويّ عن «عبد الرّحمن ابن حسنة‏:‏ أنّهم أصابتهم مجاعةٌ في إحدى الغزوات مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فوجد الصّحابة ضباباً فحرشوها وطبخوها، فبينما كانت القدور، تغلي بها علم بذلك الرّسول صلى الله عليه وسلم فأمرهم بإكفاء القدور فألقوا بها»‏.‏ واعتبر الجمهور ما ورد في تحريمه منسوخاً، لأنّ حديث الإباحة متأخّرٌ، لأنّه حضره ابن عبّاسٍ وهو لم يجتمع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ بالمدينة‏.‏ وممّن كره الضّبّ من الصّحابة رضي الله عنهم عليّ بن أبي طالبٍ، وجابر بن عبد اللّه، ويحتمل أن تكون الكراهة عندهما تحريميّةً، وهذا عندئذٍ يتّفق مع القول بالتّحريم، ويحتمل أنّها تنزيهيّةٌ‏.‏ وحجّة من قال بكراهته تنزيهاً تعارض أدلّة الإباحة والتّحريم، فيكره تنزيهاً احتياطاً‏.‏

الدّود

55 - تناولت كتب الفقه تفصيلاتٍ عن الدّود إيجازها فيما يلي‏:‏ قال الحنفيّة‏:‏ إنّ دود الزّنبور ونحوه قبل أن تنفخ فيه الرّوح لا بأس بأكله، لأنّه ليس بميتةٍ، فإن نفخت فيه الرّوح لم يجز أكله‏.‏ وعلى هذا لا يجوز أكل الجبن أو الخلّ أو الثّمار بدودها‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن مات الدّود ونحوه في طعامٍ وتميّز عن الطّعام أخرج منه وجوباً، فلا يؤكل معه، ولا يطرح الطّعام بعد إخراجه منه، لأنّ ميتته طاهرةٌ‏.‏ وإن لم يتميّز بأن اختلط بالطّعام وتهرّى طرح الطّعام، لعدم إباحة نحو الدّود الميّت به وإن كان طاهراً، فيلقى لكلبٍ أو هرٍّ أو دابّةٍ، إلاّ إذا كان الدّود غير المتميّز قليلاً‏.‏ وإن لم يمت في الطّعام جاز أكله معه‏.‏ هذا كلّه إن لم يكن الدّود ونحوه تولّد في الطّعام ‏(‏أي عاش وتربّى فيه‏)‏، سواءٌ أكان فاكهةً أم حبوباً أم تمراً، فإن كان كذلك جاز أكله معه عندهم، قلّ أو كثر، مات فيه أو لا، تميّز أو لم يتميّز‏.‏ ومعنى ذلك أنّهم يلحظون فيه حينئذٍ معنى التّبعيّة‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يحلّ أكل الدّود المتولّد في طعامٍ كخلٍّ وفاكهةٍ بثلاث شرائط‏:‏

الأولى‏:‏ - أن يؤكل مع الطّعام، حيّاً كان أو ميّتاً، فإن أكل منفرداً لم يحلّ‏.‏

الثّانية‏:‏ - ألاّ ينقل منفرداً، فإن نقل منفرداً لم يجز أكله‏.‏ وهاتان الشّريطتان منظورٌ فيهما أيضاً إلى معنى التّبعيّة‏.‏

الثّالثة‏:‏ - ألاّ يغيّر طعم الطّعام أو لونه أو ريحه إن كان مائعاً، فإن غيّر شيئاً من ذلك لم يجز أكله ولا شربه، لنجاسته حينئذٍ‏.‏ ويقاس على الدّود السّوس المتولّد في نحو التّمر والباقلاء إذا طبخا، فإنّه يحلّ أكله ما لم يغيّر الماء‏.‏ وكذا النّمل إذا وقع في العسل ونحوه فطبخ‏.‏ وقال أحمد في الباقلاء المدوّد‏:‏ تجنّبه أحبّ إليّ، وإن لم يتقذّر فأرجو‏.‏ وقال عن تفتيش التّمر المدوّد‏:‏ لا بأس به‏.‏ وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه أتي بتمرٍ عتيقٍ فجعل يفتّشه يخرج السّوس منه»‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ وهو أحسن‏.‏

بقيّة الحشرات

56 - للفقهاء في حكم بقيّة الحشرات، ما عدا الجراد والضّبّ، والدّود ثلاثة آراءٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ - حرمة أصناف الحشرات كلّها، لأنّها تعدّ من الخبائث لنفور الطّبائع السّليمة منها‏.‏ وإلى هذا ذهب الحنفيّة‏.‏

الثّاني‏:‏ - حلّ أصنافها كلّها لمن لا تضرّه‏.‏ وإليه ذهب المالكيّة، لكنّهم اشترطوا في الحلّ تذكيتها‏:‏ فإن كانت ممّا ليس له دمٌ سائلٌ ذكّيت كما يذكّى الجراد، وسيأتي بيان ذلك‏.‏ وإن كانت ممّا له دمٌ سائلٌ ذكّيت بقطع الحلقوم والودجين من أمام العنق بنيّةٍ وتسميةٍ‏.‏ وقال المالكيّة في الفأر إذا علم وصوله إلى النّجاسة‏:‏ إنّه مكروهٌ، وإن لم يعلم وصوله إليها فهو مباحٌ‏.‏

الثّالث‏:‏ - التّفصيل بتحريم بعض أصنافها دون بعضٍ‏:‏ فالشّافعيّة‏:‏ قالوا بإباحة الوبر، وأمّ حبينٍ، واليربوع، وابن عرسٍ، والقنفذ‏.‏ أمّا أمّ حبينٍ فلشبهها بالضّبّ، وأمّا البقيّة فلأنّها غير مستخبثةٍ‏.‏ والحنابلة خالفوا الشّافعيّة في القنفذ وابن عرسٍ، فقالوا بحرمتهما، ولهم روايتان في الوبر واليربوع أصحّهما الإباحة‏.‏

النّوع الثّاني عشر‏:‏ المتولّدات، ومنها البغال

57 - يقصد بالمتولّدات ما تولّد بين نوعين من الحيوان‏.‏ وهو ثلاثة أصنافٍ‏:‏

الصّنف الأوّل‏:‏ ما تولّد بين نوعين حلالين‏.‏ وهو حلالٌ بلا خلافٍ‏.‏

الصّنف الثّاني‏:‏ ما تولّد بين نوعين محرّمين أو مكروهين تحريماً‏.‏ وهو محرّمٌ أو مكروهٌ تحريماً بلا خلافٍ‏.‏

الصّنف الثّالث‏:‏ ما تولّد بين نوعين أحدهما محرّمٌ أو مكروهٌ تحريماً، والثّاني حلالٌ مع الإباحة أو مع الكراهة التّنزيهيّة‏.‏ ومن أمثلة هذا الصّنف‏:‏ البغال‏.‏ وفي حكمها تفصيلٌ‏:‏

58 - قال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ البغل وغيره من المتولّدات يتبع أخسّ الأصلين‏.‏ وصرّح الشّافعيّة بأنّ هذه التّبيعة إنّما هي عند العلم بالتّولّد بين النّوعين‏.‏ وعلى هذا لو ولدت الشّاة كلبةً دون أن يعلم أنّها نزا عليها كلبٌ فإنّها تحلّ، لعدم اليقين بتولّدها من كلبٍ، لأنّه قد تقع الخلقة على خلاف صورة الأصل، وإن كان الورع تركها‏.‏ وحجّتهم في قولهم يتبع أخسّ الأصلين، أنّه متولّدٌ منهما فيجتمع فيه حلٌّ وحرمةٌ، فيغلّب جانب الحرمة احتياطاً‏.‏ ومن القواعد الفقهيّة أنّه إذا تعارض المانع والمقتضي، أو الحاظر والمبيح، غلّب جانب المانع الحاظر احتياطاً‏.‏

59 - وعند الحنفيّة البغال تابعةٌ للأمّ، فالبغل الّذي أمّه أتانٌ ‏(‏حمارةٌ‏)‏ يكره أكل لحمه تحريماً تبعاً لأمّه، والّذي أمّه فرسٌ يجري فيه الخلاف الّذي فيه الخيل‏:‏ فيكون مكروهاً عند أبي حنيفة، ومباحاً عند الصّاحبين‏.‏ فلو فرض تولّده بين حمارٍ وبقرةٍ، أو بين حصانٍ وبقرةٍ فهو مباحٌ عند جميع الحنفيّة بلا خلافٍ في المذهب، تبعاً لأمّه كما تقدّم‏.‏ وما يقال في البغال يقال في كلّ متولّدٍ بين نوعين من الحيوان، فالتّبعيّة للأمّ هي القاعدة عند الحنفيّة‏.‏ ويعرف من الدّرّ المختار وحاشيته لابن عابدين أنّ العبرة للأمّ ولو ولدت المأكولة ما صورته صورة غير المأكول، كما لو ولدت الشّاة ذئباً فإنّه يحلّ‏.‏

60 - والمالكيّة أيضاً يقولون بقاعدة التّبعيّة للأمّ في الحكم مع بعض اختلافٍ‏.‏ فهم يقيّدون ذلك بألاّ يأتي المتولّد بين نوعين على صورة المحرّم، فإنّه عندئذٍ يحرم، وإن كانت الأمّ مباحةً، كما لو ولدت الشّاة خنزيراً‏.‏ وكذلك لا يجوّزون أكل مباحٍ ولدته محرّمةٌ، كشاةٍ من أتانٍ ‏(‏وفقاً للقاعدة‏)‏ ولا عكسه أيضاً، كأتانٍ من شاةٍ ‏(‏على خلاف القاعدة‏)‏ ولكنّ هذا الولد الّذي ولدته المحرّمة على صورة المباح إذا نسل يؤكل نسله عندهم حيث كان على صورة المباح، لبعده عن أمّه المحرّمة‏.‏ وقد ذكروا في البغل قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ التّحريم، وهو المشهور‏.‏ وثانيهما‏:‏ الكراهة دون تفريقٍ أيضاً بين كون أمّه فرساً أو أتاناً، اعتماداً على أدلّةٍ أخرى في خصوص البغل غير قاعدة التّولّد‏.‏

61 - وحجّة من قال‏:‏ إنّ البغل يتبع أمّه أنّه قبل خروجه منها هو جزءٌ منها، فيكون حكمه حكمها‏:‏ حلاًّ، وحرمةً، وكراهةً، فيبقى هذا الحكم بعد خروجه استصحاباً‏.‏ وحجّة من أطلق التّحريم أو الكراهة التّحريميّة‏.‏ من الكتاب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها، وزينةً‏}‏‏.‏ فقد بيّنت الآية مزاياها أنّها ركائب وزينةٌ، وسكتت عن الأكل في مقام الامتنان فيدلّ على أنّها غير مأكولةٍ‏.‏ ومن السّنّة حديث جابر بن عبد اللّه قال‏:‏ «حرّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - يعني يوم خيبر - لحوم الحمر الإنسيّة ولحوم البغال، وكلّ ذي نابٍ من السّباع، وكلّ ذي مخلبٍ من الطّير»‏.‏ وحديث خالد بن الوليد‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال»‏.‏ وحجّة من أطلق القول بالكراهة التّنزيهيّة هي الجمع بين دلالة الآيات والأحاديث السّابقة، وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فقالوا‏:‏ إنّها ليست محرّمةٌ، عملاً بهذه الآية الأخيرة، وليست واضحة الإباحة للخلاف في دلالة الآية الأولى والأحاديث، فيخرج من ذلك أنّها مكروهةٌ كراهةً تنزيهيّةً‏.‏

وحجّة من قال بالإباحة‏:‏ أنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً‏}‏‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ‏{‏وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه‏}‏ ولم يذكر فيما فصّل تحريم البغل، فهو حلالٌ‏.‏ والقول بأنّه متولّدٌ من الحمار فيكون مثله قولٌ لا يصحّ، لأنّه منذ نفخت فيه الرّوح هو مغايرٌ للحمار، وليس جزءاً منه‏.‏

النّوع الثّالث عشر‏:‏ كلّ حيوانٍ لم يعرفه العرب في أمصارهم

62 - المراد بهذا النّوع ما كان غير معروفٍ من قبل عند العرب أهل اللّغة الّتي نزل بها القرآن في أمصارهم وأشبه ما استطابوه أو استخبثوه‏.‏ فما كان مشبّهاً لما استطابوه فهو حلالٌ أكله‏.‏ وما كان مشبّهاً لما استخبثوه فهو حرامٌ أو مكروهٌ تحريماً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك ماذا أحلّ لهم ‏؟‏ قل‏:‏ أحلّ لكم الطّيّبات‏}‏ أي ما استطبتموه أنتم، لأنّه هم السّائلون الّذين وجّه إليهم الجواب‏.‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحرّم عليهم الخبائث‏}‏ أي ما استخبثوه، فالّذين تعتبر استطابتهم واستخباثهم إنّما هم أهل الحجاز، لأنّ الكتاب نزل عليهم وخوطبوا به أوّلاً‏.‏ والمعتبر منهم أهل الأمصار لا أهل البوادي، لأنّ هؤلاء يأكلون للضّرورة ما يجدون مهما كان‏.‏ فما لم يكن من الحيوان في أمصار الحجاز يردّ إلى أقرب ما يشبهه في بلادهم‏.‏ فإن أشبه ما استطابوه حلّ، وإن أشبه ما استخبثوه حرم‏.‏ وإن لم يشبه شيئاً ممّا عندهم حلّ، لدخوله تحت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ هذا مذهب الحنفيّة‏.‏ وصرّح بنحوه الشّافعيّة والحنابلة مع اختلافاتٍ يسيرةٍ تعلم بمراجعة كتبهم‏.‏

63 - والمالكيّة يحلّون كلّ ما لا نصّ على تحريمه‏.‏ فالمالكيّة لا يعتبرون استطابة العرب من أهل الحجاز ولا استخباثهم ولا المشابهة أساساً في تفسير الطّيّبات‏.‏ وممّا يستدلّ به على ذلك مجموع الآيات الثّلاث التّالية، هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق لكم ما في الأرض جميعاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم‏}‏ فمنها يعرف أنّ المحرّم هو ما استثناه النّصّ من عموم الآية الأولى، فيبقى ما سواه داخلاً في عمومها المبيح‏.‏

ما يحرم أو يكره من الحيوان المأكول لسببٍ عارضٍ

64 - هناك حالاتٌ عارضةٌ تجعل بعض أنواعٍ من الحيوان المأكول حراماً أو مكروهاً أكلها شرعاً، ولو ذكّيت التّذكية المقبولة شرعاً‏.‏ فإذا زالت أسباب الحرمة أو الكراهة العارضة عاد الحيوان حلالاً دون حرجٍ‏.‏ هذه الأسباب العارضة منها ما يتّصل بالإنسان، ومنها ما يتّصل بالحيوان نفسه، ومنها ما يتّصل بهما معاً‏.‏ وفيما يلي بيان ذلك‏:‏

أسباب التّحريم العارضة‏:‏

أ - الإحرام بالحجّ أو العمرة‏:‏

65 - هذا سببٌ يقوم بالإنسان، فحالة الإحرام بالحجّ أو بالعمرة تجعل من المحظور على المحرم صيد حيوان الصّيد البرّيّ، ما دام الشّخص محرماً لم يتحلّل من إحرامه‏.‏ فإذا قتل حيواناً من هذا النّوع صيداً، أو أمسكه فذبحه، كان كالميتة حرام اللّحم على قاتله المحرم نفسه وعلى غيره، سواءٌ اصطاده في الحرم المكّيّ أو خارجه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرمٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

66 - والمراد بحيوان الصّيد البرّيّ الحيوان المتوحّش الممتنع، أي غير الآهل كالظّباء والحمام‏.‏ أمّا الآهل كالدّواجن من الطّيور، والأنعام من الدّوابّ فهو حلالٌ للمحرم وغيره‏.‏ وكذلك الحيوان المائيّ حلالٌ مطلقاً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة، وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً‏}‏‏.‏ وهذا محلّ اتّفاقٍ بين جميع المذاهب‏.‏

ب - وجود حيوان الصّيد في نطاق الحرم المكّيّ‏:‏

67 - ويشمل مكّة المكرّمة والأرض المحيطة بها إلى الحدود المقرّرة في أحكام الحجّ، والمعروفة بحدود الحرم‏.‏ وهذا سببٌ يتّصل بالحيوان نفسه، وهو كونه في حماية الحرم الآمن‏.‏ فكلّ حيوانٍ من حيوان الصّيد البرّيّ المأكول يقطن في نطاق الحرم، أو يدخل فيه دون أن يجري عليه امتلاكٌ سابقٌ، فإنّه إذا قتل أو ذبح أو عقر كان لحمه حراماً كالميتة، ولو كان قاتله غير محرمٍ، وذلك لحرمة المكان الثّابتة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏، وبما ثبت من حديث ابن عبّاسٍ قال‏:‏ «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة‏:‏ إنّ هذا البلد حرامٌ لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه، ولا ينفّر صيده»‏.‏

هذا مذهب الجمهور‏.‏

68 - وهناك اجتهاداتٌ ترى جريان هذا التّحريم أيضاً في حيوان الحرم المدنيّ، وهو مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم والأرض المحيطة بها إلى الحدود المقرّرة لها في النّصوص، وفيه حديث عليٍّ مرفوعاً‏:‏ «المدينة حرمٌ ما بين عيرٍ إلى ثورٍ، لا يختلى خلاها ولا ينفّر صيدها» وهذا أحد قولين عند الشّافعيّة‏.‏ وتفصيل ذلك حكماً ودليلاً وبيان حدود الحرمين يرى في محلّه من موضوع الحجّ وموضوع الصّيد‏.‏

وهناك في صيد الحرم وصيد المحرم من يرى أنّه إنّما يحرم، ويعتبر كالميتة على صائده فقط عقوبةً له‏.‏ ولكنّه يكون لحماً حلالاً في ذاته، فيجوز لغير صائده أن يأكل منه‏.‏ وهو قولٌ مرجوحٌ عند الشّافعيّة‏.‏ ويرى قومٌ تحريم صيد المحرم في أرض الحلّ على صائده فقط، ويرى آخرون تحريمه عليه وعلى سواه من المحرمين دون المحلّين‏.‏

السّبب العارض الموجب للكراهة ‏(‏الحيوانات الجلاّلة‏)‏

69 - المقصود هنا بيان ما يكره أكله من الحيوان المباح الأصل بسببٍ عارضٍ اقتضى هذه الكراهة، فإذا زال العارض زالت الكراهة‏.‏ ولم يذكر الفقهاء من هذا النّوع سوى الحيوانات الجلاّلة‏.‏

فقال الكاسانيّ‏:‏ إنّ الجلاّلة هي الإبل أو البقر أو الغنم الّتي أغلب أكلها النّجاسات فيكره أكلها، لما روي «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الإبل الجلاّلة»، ولأنّها إذا كان الغالب من أكلها النّجاسات يتغيّر لحمها وينتن، فيكره أكله كالطّعام المنتن‏.‏ وروي «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلاّلة أن تشرب ألبانها»‏.‏ أيضاً، وذلك لأنّ لحمها إذا تغيّر يتغيّر لبنها‏.‏ وأمّا ما روي من النّهي عن ركوبها فمحمولٌ على أنّها أنتنت فيمتنع من استعمالها حتّى لا يتأذّى النّاس بنتنها‏.‏ وقيل‏:‏ لا يحلّ الانتفاع بها، ولو لغير الأكل، والأوّل هو الأصحّ، لأنّ النّهي ليس لمعنًى يرجع إلى ذاتها، بل لعارضٍ جاورها، فكان الانتفاع بها حلالاً في ذاته، ممنوعاً لغيره‏.‏

70 - وتزول الكراهية بحبسها عن أكل النّجاسة وعلفها بالعلف الطّاهر‏.‏ وهل لحبسها تقديرٌ زمنيٌّ، أو ليس له تقديرٌ ‏؟‏ روي عن محمّدٍ أنّه قال‏:‏ كان أبو حنيفة لا يوقّت في حبسها، وقال‏:‏ تحبس حتّى تطيب، وهو قول محمّدٍ وأبي يوسف أيضاً‏.‏ وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنّها تحبس ثلاثة أيّامٍ، وروى ابن رستم عن محمّدٍ في النّاقة والشّاة والبقرة الجلاّلات أنّها إنّما تكون جلاّلةً إذا أنتنت وتغيّرت ووجد منها ريحٌ منتنةٌ، فهي الّتي لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها‏.‏ هذا إذا كانت لا تخلط ولا تأكل إلاّ الجلّة أو العذرة غالباً، فإن خلطت فليست جلاّلةً فلا تكره، لأنّها لا تنتن‏.‏

71 - ولا يكره أكل الدّجاجة المخلاة وإن كانت تتناول النّجاسة، لأنّها لا يغلب عليها أكلها، بل تخلطها بالحبّ‏.‏ وقيل‏:‏ إنّما لا تكره، لأنّها لا تنتن كما تنتن الإبل، والحكم متعلّقٌ بالنّتن‏.‏ ولهذا قالوا في الجدي إذا ارتضع بلبن خنزيرةٍ حتّى كبر‏:‏ إنّه لا يكره أكله، لأنّ لحمه لا يتغيّر ولا ينتن‏.‏ وهذا يدلّ على أنّ العبرة للنّتن لا لتناول النّجاسة‏.‏ والأفضل أن تحبس الدّجاجة المخلاة حتّى يذهب ما في بطنها من النّجاسة، وذلك على سبيل التّنزّه‏.‏ وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنّها تحبس ثلاثة أيّامٍ، وكأنّه ذهب إلى ذلك، لأنّ ما في جوفها من النّجاسة يزول في هذه المدّة غالباً‏.‏ هذه خلاصة ما أفاده صاحب ‏"‏ البدائع ‏"‏ ويؤخذ من ‏"‏ الدّرّ المختار ‏"‏ وحاشية ابن عابدين عليه وتقرير الرّافعيّ أنّ كراهة الجلاّلة تنزيهيّةٌ لا تحريميّةٌ، وأنّ صاحب ‏"‏ التّجنيس ‏"‏ اختار حبس الدّجاجة ثلاثة أيّامٍ، والشّاة أربعةً، والإبل والبقرة عشرةً، وأنّ السّرخسيّ قال‏:‏ الأصحّ عدم التّقدير وأنّها تحبس حتّى تزول الرّائحة المنتنة‏.‏

72 - ومذهب الشّافعيّة قريبٌ من الحنفيّة، فقد قال الشّافعيّة‏:‏ إذا ظهر تغيّرٌ في لحم الجلاّلة، سواءٌ أكانت من الدّوابّ أم من الطّيور، وسواءٌ أكان التّغيّر في الطّعم أم اللّون أم الرّيح، ففيها وجهان لأصحاب الشّافعيّ، أصحّهما عند الرّافعيّ الحرمة، وعند النّوويّ الكراهة، وهذا هو الرّاجح، لأنّ النّهي في الحديث إنّما هو لتغيّر اللّحم فلا يقتضي التّحريم‏.‏ ويلحق بالجلاّلة ولدها الّذي يوجد في بطنها بعد ذكاتها، إذا وجد ميّتاً وظهر فيه التّغيّر، وكذلك العنز الّتي ربّيت بلبن كلبةٍ أو خنزيرةٍ إذا تغيّر لحمها‏.‏ فإن علفت الجلاّلة، أو لم تعلف، فطاب لحمها حلّ بلا كراهةٍ، لزوال علّة الكراهة وهي التّغيّر‏.‏ ولا تقدير لمدّة العلف‏.‏ وتقديرها بأربعين يوماً في البعير، وثلاثين في البقر، وسبعةٍ في الشّاة، وثلاثةٍ في الدّجاجة بناءً على الغالب‏.‏ ولا يكفي الغسل أو الطّبخ للحكم بطيب اللّحم‏.‏ وإذا حرم أو كره أكل الجلاّلة حرم أو كره سائر أجزائها كبيضها ولبنها، ويكره ركوبها من غير حائلٍ، لأنّ لعرقها حكم لبنها ولحمها‏.‏

73 - وروى الحنابلة عن الإمام أحمد قولين‏:‏

أوّلهما‏:‏ أنّ الجلاّلة تحرم، وهو المذهب، وعليه الأصحاب‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّها تكره‏.‏ ورووا عن أحمد فيما تزول به الكراهة روايتين‏:‏

‏(‏إحداهما‏)‏ أنّ الجلاّلة مطلقاً تحبس ثلاثة أيّامٍ‏.‏

‏(‏الثّانية‏)‏ أنّ الطّائر يحبس ثلاثةً، والشّاة سبعةً، وما عدا ذلك ‏(‏من الإبل والبقر ونحوهما في الكبر‏)‏ أربعين يوماً‏.‏ وصرّح المالكيّة‏:‏ بأنّ الطّيور والأنعام الجلاّلة مباحةٌ، لكن قال ابن رشدٍ‏:‏ إنّ مالكاً كره الجلاّلة‏.‏ ودليل تحريم الجلاّلة عند من حرّمها ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلاّلة وألبانها»‏.‏ ووجه حبسها ثلاثاً«أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً وأطعمها الطّاهرات»‏.‏ ووجه حبس الإبل أربعين يوماً ما روي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّه قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلاّلة أن يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلاّ الأدم‏.‏ ولا يركبها النّاس حتّى تعلف أربعين ليلةً»‏.‏

أجزاء الحيوان وما انفصل منه

حكم العضو المبان

74 - إنّ العضو الّذي يبان من الحيوان، أي يفصل منه، يختلف الحكم الشّرعيّ في حلّ أكله وحرمته بحسب الأحوال‏.‏ وتفصيل ذلك كما يلي‏:‏

أ - العضو المبان من حيوانٍ حيٍّ‏:‏

يعتبر كميتة هذا الحيوان في حلّ الأكل وحرمته، فالمبان من السّمك الحيّ أو الجراد الحيّ يؤكل عند الجمهور، لأنّ ميتتهما تؤكل‏.‏ والمالكيّة يقولون في الجراد‏:‏ إن كانت الإبانة خاليةً عن نيّة التّذكية، أو خاليةً عن التّسمية عمداً لم يؤكل المبان، وإن كانت مصحوبةً بالنّيّة والتّسمية أكل المبان إن كان هو الرّأس، ولا يؤكل إن كان جناحاً أو يداً أو نحوهما‏.‏ والمبان من سائر الحيوانات البرّيّة ذات الدّم السّائل لا يؤكل، سواءٌ أكان أصله مأكولاً كالأنعام، أم غير مأكولٍ كالخنزير، فإنّ ميتة كلٍّ منهما لا تؤكل بلا خلافٍ، فكذلك ما أبين منه حيّاً، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما قطع من البهيمة وهي حيّةٌ فهو ميتةٌ»‏.‏

ب - العضو المبان من الميتة‏:‏

حكمه حكم سائر الميتة في الأكل وعدمه بلا خلافٍ‏.‏

ج - العضو المبان من المذكّى المأكول في أثناء تذكيته قبل تمامها‏:‏

حكمه حكم المبان من الحيّ‏.‏ فلو قطع إنسانٌ حلقوم الشّاة وبعض مريئها للتّذكية، فقطع إنسانٌ آخر يدها أو أليتها، فالمقطوع نجسٌ حرام الأكل، كالمقطوع من الحيّ، وهذا لا خلاف فيه أيضاً‏.‏

د - العضو المبان من المذكّى المأكول بعد تمام تذكيته وقبل زهوق روحه‏:‏

يحلّ أكله عند الجمهور، لأنّ حكمه حكم المذكّى، لأنّ بقاء رمقٍ من الحياة هو رمقٌ في طريق الزّوال العاجل، فحكمه حكم الموت‏.‏

هـ -العضو المبان من المصيد بآلة الصّيد‏:‏

إمّا أن يبقى المصيد بعد إبانته حيّاً حياةً مستقرّةً، وإمّا أن تصير حياته حياة مذبوحٍ‏:‏

ففي الحالة الأولى‏:‏ يكون عضواً مباناً من حيوانٍ حيٍّ، فيكون كميتته‏.‏

وفي الحالة الثّانية‏:‏ يكون عضواً مباناً بالتّذكية، ويختلف النّظر إليه، لأنّ له صفتين شبه متعارضتين‏:‏

الصّفة الأولى‏:‏ أنّه عضوٌ أبين قبل تمام التّذكية فيكون حكمه حكم المبان من الحيّ فلا يحلّ‏.‏

والصّفة الثّانية‏:‏ أنّ التّذكية سببٌ في حلّ المذكّى، وكلٌّ من المبان والمبان منه مذكًّى، لأنّ التّذكية بالصّيد هي تذكيةٌ للمصيد كلّه لا لبعضه، فيحلّ العضو كما يحلّ الباقي‏.‏

ولهذا كان في المسألة خلافٌ وتفصيلٌ ‏(‏ر‏:‏ صيدٌ‏)‏‏.‏

حكم أجزاء الحيوان المذكّى

75 - لا شكّ أنّ التّذكية حينما تقع على الحيوان المأكول تقتضي إباحة أكله في الجملة، وقد يكون لبعض الأجزاء حكمٌ خاصٌّ‏:‏ فالدّم المسفوح مثلاً، حرامٌ بالإجماع، وهو ما سال من الذّبيحة، وما بقي بمكان الذّبح، وما تسرّب إلى داخل الحيوان من الحلقوم والمريء‏.‏ وأمّا ما بقي في العروق واللّحم والكبد والطّحال والقلب فإنّه حلال الأكل، حتّى إنّه لو طبخ اللّحم فظهرت الحمرة في المرق لم ينجس ولم يحرم‏.‏ وقد ذكر الحنفيّة وغيرهم أشياء تكره أو تحرم من الذّبيحة‏.‏ وفيما يلي تفصيل ما قالوه وما قاله غيرهم في ذلك‏:‏

76 - قال الحنفيّة‏:‏ يحرم من أجزاء الحيوان سبعةٌ‏:‏ الدّم المسفوح، والذّكر، والأنثيان، والقبل ‏(‏أي فرج الأنثى وهو المسمّى بالحيا‏)‏، والغدّة، والمثانة ‏(‏وهي مجمع البول‏)‏، والمرارة ‏(‏وهي وعاء المرّة الصّفراء، وتكون ملصقةً بالكبد‏)‏‏.‏

وهذه الحرمة في نظرهم لقوله عزّ شأنه‏:‏ ‏{‏ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث‏}‏، وهذه السّبعة ممّا تستخبثه الطّباع السّليمة فكانت محرّمةً، وقد دلّت السّنّة على خبثها، لما روى الأوزاعيّ عن واصل بن أبي جميلة عن مجاهدٍ أنّه قال‏:‏ «كره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الشّاة‏:‏ الذّكر، والأنثيين، والقبل، والغدّة، والمرارة، والمثانة، والدّم»‏.‏ والمراد كراهة التّحريم قطعاً، بدليل أنّه جمع بين الأشياء السّتّة وبين الدّم في الكراهة، والدّم المسفوح محرّمٌ بنصّ القرآن‏.‏

77 - والمرويّ عن أبي حنيفة أنّه قال‏:‏ الدّم حرامٌ، وأكره السّتّة‏.‏ فأطلق وصف الحرام على الدّم المسفوح، وسمّى ما سواه مكروهاً، لأنّ الحرام المطلق ما ثبتت حرمته بدليلٍ مقطوعٍ به، وحرمة الدّم المسفوح قد ثبتت بدليلٍ مقطوعٍ به، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، وانعقد الإجماع أيضاً على حرمته‏.‏ فأمّا حرمة ما سواه من الأجزاء فلم تثبت بدليلٍ مقطوعٍ به بل بالاجتهاد، أو بظاهر الكتاب العزيز المحتمل للتّأويل، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحرّم عليهم الخبائث‏}‏، أو بالحديث السّابق ذكره‏.‏ لذلك فصّل أبو حنيفة بينهما في الوصف فسمّى الدّم حراماً، والباقي مكروهاً‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ الكراهة في الأجزاء السّتّة تنزيهيّةٌ، لكنّ الأوجه كما في ‏"‏ الدّرّ المختار ‏"‏ أنّها تحريميّةٌ‏.‏

78 - هذا، والدّم المسفوح متّفقٌ على تحريمه كما مرّ‏.‏

وروى ابن حبيبٍ من المالكيّة استثقال أكل عشرةٍ - دون تحريمٍ - الأنثيان والعسيب والغدّة والطّحال والعروق والمرارة والكليتان والمثانة وأذنا القلب‏.‏

79 - والحنابلة قالوا بكراهة أكل الغدّة وأذن القلب‏.‏ أمّا الغدّة «فلأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كره أكلها»، روى ذلك عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ عن أبيه‏.‏ وأمّا أذن القلب«فلأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها»، نقل ذلك أبو طالبٍ الحنبليّ‏.‏

حكم ما انفصل من الحيوان

80 - من المقرّر في موضوع ‏"‏ النّجاسة ‏"‏ أنّ المائعات المنفصلة من الحيوان، والفضلات، والبيض، والجنين، تارةً تكون نجسةً، وتارةً تكون طاهرةً، فما كان نجساً منها في مذهبٍ من المذاهب فهو غير مأكولٍ في ذلك المذهب، وما كان طاهراً فتارةً يكون مأكولاً، وتارةً يكون غير مأكولٍ، إذ لا يلزم من الطّهارة حلّ الأكل، فإنّ الطّاهر قد يكون مضرّاً أو مستقذراً فلا يحلّ أكله‏.‏

ويكفينا هنا أن نضرب أمثلةً لما يكثر السّؤال عنه

‏:‏ أوّلاً - البيض‏:‏

81 - إن خرج البيض من حيوانٍ مأكولٍ في حال حياته، أو بعد تذكيته شرعاً، أو بعد موته، وهو ممّا لا يحتاج إلى التّذكية كالسّمك، فبيضه مأكولٌ إجماعاً، إلاّ إذا فسد‏.‏

وفسّر المالكيّة البيض الفاسد بأنّه ما فسد بعد انفصاله بعفنٍ، أو صار دماً، أو صار مضغةً، أو فرخاً ميّتاً‏.‏ وفسّره الشّافعيّة بأنّه الّذي تغيّر بحيث أصبح غير صالحٍ للتّخلّق، فلا يضرّ عندهم صيرورته دماً، إذا قال أهل الخبرة‏:‏ إنّه صالحٌ للتّخلّق‏.‏

82 - وإن خرج البيض من حيوانٍ مأكولٍ بعد موته دون تذكيةٍ شرعيّةٍ، وهو ممّا يحتاج إلى الذّكاة، كالدّجاج، فعند أبي حنيفة‏:‏ يؤكل سواءٌ أتصلّبت قشرته أم لا‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لا يؤكل‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يؤكل ما تصلّبت قشرته فقط‏.‏ وحكى الزّيلعيّ عن أبي يوسف ومحمّدٍ أنّه يكون نجساً إن كان مائعاً، فلا يؤكل عندهما إلاّ إذا كان جامداً‏.‏

83 - وإن خرج البيض من حيوانٍ غير مأكولٍ فمقتضى مذهب الحنفيّة أنّه إن كان من ذوات الدّم السّائل، كالغراب الأبقع، فبيضه نجسٌ تبعاً للحمه، فلا يكون مأكولاً‏.‏ وإن لم يكن من ذوات الدّم السّائل كالزّنبور فبيضه طاهرٌ تبعاً للحمه، ومأكولٌ لأنّه ليس بميتةٍ‏.‏ والمالكيّة يحلّ عندهم كلّ البيض الخارج من الحيّ أو المذكّى، لأنّ الحيوانات الّتي تبيض لا تنقسم عندهم إلى مأكولٍ وغير مأكولٍ، بل كلّها مباح الأكل، إلاّ ما لا يؤمن سمّه كالوزغ، فهو محرّمٌ على من يضرّه‏.‏ فكذلك بيضه إن كان يضرّ، فهو محرّمٌ وإلاّ فلا، فالعبرة عندهم إنّما هي للضّرر‏.‏ وصرّح النّوويّ بأنّ بيض الحيّ غير المأكول طاهرٌ مأكولٌ‏:‏ أمّا كونه طاهراً فلأنّه أصل حيوانٍ طاهرٍ، وأمّا كونه مأكولاً فلأنّه غير مستقذرٍ، لكن قال ابن المقري في الرّوض ‏"‏ وفي بيض ما لا يؤكل تردّدٌ ‏"‏‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّ بيض غير المأكول نجسٌ لا يحلّ أكله‏.‏ وممّا احتجّ به لهذا أنّ البيض بعض الحيوان، فإذا كان الحيوان غير مأكولٍ فبعضه غير مأكولٍ‏.‏

ثانياً‏:‏ اللّبن‏:‏

84 - إن خرج اللّبن من حيوانٍ حيٍّ فهو تابعٌ للحمه في إباحة التّناول وكراهته وتحريمه‏.‏ ويستثنى من المحرّم‏:‏ الآدميّ، فلبنه مباحٌ، وإن كان لحمه محرّماً، لأنّ تحريمه للتّكريم لا للاستخباث‏.‏ وعلى هذا اتّفق الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ واستثنى الحنفيّة من المحرّم أو المكروه الخيل، بناءً على ما نقل عن الإمام أبي حنيفة من أنّها محرّمةٌ أو مكروهةٌ، ففي لبنها على هذا رأيان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه تابعٌ للّحم فيكون حراماً أو مكروهاً‏.‏

وثانيهما‏:‏ - وهو الصّحيح - أنّه مباحٌ، لأنّ تحريم الخيل أو كراهتها لكونها آلة الجهاد لا لاستخباث لحمها، واللّبن ليس آلة الجهاد‏.‏ ونقل عن عطاءٍ وطاوسٍ والزّهريّ أنّهم رخّصوا في لبن الحمر الأهليّة‏.‏ وإن خرج اللّبن من حيوانٍ مأكولٍ بعد تذكيته فهو مأكولٌ، وهذا متّفقٌ عليه‏.‏ وإن خرج من آدميّةٍ ميّتةٍ فهو مأكولٌ عند القائلين بأنّ الآدميّ لا ينجس بالموت‏.‏ وكذا أيضاً عند بعض القائلين بأنّه ينجس بالموت كأبي حنيفة، فإنّه مع قوله بنجاسة الآدميّ الميّت يقول‏:‏ إنّ لبن المرأة الميتة طاهرٌ مأكولٌ، خلافاً للصّاحبين‏.‏ وإن خرج اللّبن من ميّتة المأكول، كالنّعجة مثلاً، فهو طاهرٌ مأكولٌ عند أبي حنيفة‏.‏ ويرى صاحباه والمالكيّة والشّافعيّة أنّه حرامٌ لتنجّسه بنجاسة الوعاء، وهو ضرع الميتة الّذي تنجّس بالموت‏.‏ وحجّة القائلين بطهارته وإباحته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّ لكم في الأنعام لعبرةٌ، نسقيكم ممّا في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشّاربين‏}‏‏.‏ وذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ وصفه بكونه خالصاً فلا يتنجّس بنجاسة مجراه، ووصفه بكونه سائغاً وهذا يقتضي الحلّ، وامتنّ علينا به، والمنّة بالحلال لا بالحرام‏.‏

ثالثاً‏:‏ الإنفحة‏:‏

85 - الإنفحة هي مادّةٌ بيضاء صفراويّةٌ في وعاءٍ جلديٍّ، يستخرج من بطن الجدي أو الحمل الرّضيع، يوضع منها قليلٌ في اللّبن الحليب فينعقد ويتكاثف ويصير جبناً، يسمّيها النّاس في بعض البلدان‏:‏ ‏(‏مجبنةٌ‏)‏‏.‏ وجلدة الإنفحة هي الّتي تسمّى‏:‏ كرشاً، إذا رعى الحيوان العشب‏.‏

فالإنفحة إن أخذت من مذكًّى ذكاةً شرعيّةً فهي طاهرةٌ مأكولةٌ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وإن أخذت الإنفحة من ميّتٍ، أو مذكًّى ذكاةً غير شرعيّةٍ فهي نجسةٌ غير مأكولةٍ عند الجمهور، وطاهرةٌ مأكولةٌ عند أبي حنيفة، سواءٌ كانت صلبةً أم مائعةً قياساً على اللّبن كما سبق‏.‏ وقال الصّاحبان‏:‏ إن كانت صلبةً يغسل ظاهرها وتؤكل، وإن كانت مائعةً فهي نجسةٌ لنجاسة وعائها بالموت فلا تؤكل‏.‏ وبهذا يعلم أنّ الجبن المصنوع من لبن الحيوان المأكول إذا عقد بإنفحة المذكّى ذكاةً شرعيّةً فهو طاهرٌ مأكولٌ بالاتّفاق، وإن عقد بإنفحة الميتة فهو على الخلاف‏.‏

رابعاً - الجنين‏:‏

86 - جنين الحيوان المأكول إن خرج من حيٍّ أو ميتةٍ لا يحلّ إلاّ إن أدركت ذكاته، فذكّي ذكاةً شرعيّةً‏.‏ وإن خرج من مذكّاةٍ ذكاةً شرعيّةً اختياريّةً أو اضطراريّةً فهناك حالتان‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ أن يخرج قبل نفخ الرّوح فيه، بأن يكون علقةً أو مضغةً أو جنيناً غير كامل الخلقة فلا يحلّ عند الجمهور، لأنّه ميتةٌ، إذ لا يشترط في الموت تقدّم الحياة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم‏}‏‏.‏ فمعنى قوله‏:‏ ‏(‏كنتم أمواتاً‏)‏ كنتم مخلوقين بلا حياةٍ، وذلك قبل أن تنفخ فيهم الرّوح‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ أن يخرج بعد نفخ الرّوح فيه بأن يكون جنيناً كامل الخلقة - أشعر أو لم يشعر - ولهذه الحالة صورٌ‏:‏

الصّورة الأولى‏:‏ أن يخرج حيّاً حياةً مستقرّةً فتجب تذكيته، فإن مات قبل التّذكية فهو ميتةٌ اتّفاقاً‏.‏

الصّورة الثّانية‏:‏ أن يخرج حيّاً حياة مذبوحٍ، فإن أدركنا ذكاته وذكّيناه حلّ اتّفاقاً، وإن لم يذكّ حلّ أيضاً عند الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ حياة المذبوح كلا حياةٍ، فكأنّه مات بتذكية أمّه‏.‏ وعند أبي يوسف ومحمّدٍ أنّه إذا خرج حيّاً، ولم يكن من الوقت مقدار ما يقدر على ذبحه فمات يؤكل، وهو تفريعٌ على قولهما‏:‏ إنّ ذكاة الجنين بذكاة أمّه‏.‏

وقال المالكيّة إن سارعنا إليه بالذّكاة فمات قبلها حلّ، لأنّ حياته حينئذٍ كلا حياةٍ، وكأنّه خرج ميّتاً بذكاة أمّه، لكنّهم اشترطوا في حلّه حينئذٍ أن ينبت شعر جسده، وإن لم يتكامل، ولا يكفي شعر رأسه أو عينه‏.‏

الصّورة الثّالثة‏:‏ أن يخرج ميّتاً، ويعلم أنّ موته كان قبل تذكية أمّه، فلا يحلّ اتّفاقاً، ويعرف موته قبل ذكاة أمّه بأمورٍ، منها‏:‏ أن يكون متحرّكاً في بطنها فتضرب فتسكن حركته، ثمّ تذكّى، فيخرج ميّتاً، ومنها‏:‏ أن يخرج رأسه ميّتاً ثمّ تذكّى‏.‏

الصّورة الرّابعة‏:‏ أن يخرج ميّتاً بعد تذكية أمّه بمدّةٍ لتواني المذكّي في إخراجه فلا يحلّ اتّفاقاً للشّكّ في أنّ موته كان بتذكية أمّه أو بالانخناق للتّواني في إخراجه‏.‏

الصّورة الخامسة‏:‏ أن يخرج ميّتاً عقب تذكية أمّه من غير أن يعلم موته قبل التّذكية، فيغلب على الظّنّ أنّ موته بسبب التّذكية لا بسببٍ آخر‏.‏ وهذه الصّورة هي محلّ الخلاف بين الفقهاء‏.‏ فأبو حنيفة وزفر والحسن بن زيادٍ يرون أنّه لا يحلّ، وأبو يوسف ومحمّدٌ والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وجمهور الفقهاء من الصّحابة وغيرهم يقولون‏:‏ إنّه لا بأس بأكله‏.‏ غير أنّ المالكيّة اشترطوا الإشعار‏.‏ وهو مذهب كثيرٍ من الصّحابة‏.‏

وحجّة أبي حنيفة ومن معه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرّمت عليكم الميتة‏}‏ والجنين الّذي لم يدرك حيّاً بعد تذكية أمّه ميتةٌ، وممّا يؤكّد ذلك أنّ حياة الجنين مستقلّةٌ، إذ يتصوّر بقاؤها بعد موت أمّه فتكون تذكيته مستقلّةً‏.‏

وحجّة أبي يوسف ومحمّدٍ والجمهور قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ذكاة الجنين ذكاة أمّه» وهذا يقتضي أنّه يتذكّى بذكاة أمّه، واحتجّوا أيضاً بأنّه تبعٌ لأمّه حقيقةً وحكماً، أمّا حقيقةٌ فظاهرٌ، وأمّا حكماً فلأنّه يباع ببيع الأمّ، ولأنّ جنين الأمّ يعتق بعتقها، والحكم في التّبع يثبت بعلّة الأصل، ولا تشترط له علّةٌ على حدةٍ، لئلاّ ينقلب التّبع أصلاً‏.‏

تناول المضطرّ للميتة ونحوها

87 - أجمع المسلمون على إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطرّ، وقد ذكر اللّه عزّ وجلّ الاضطرار إلى المحرّمات في خمسة مواطن من القرآن الكريم‏:‏

الأوّل‏:‏ - الآية /173 /من سورة البقرة، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ‏}‏‏.‏

الثّاني‏:‏ - الآية الثّالثة من سورة المائدة، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ‏}‏‏.‏

الثّالث‏:‏ - الآية/145/ من سورة الأنعام، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها ‏{‏فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فإنّ ربّك غفورٌ رحيمٌ‏}‏‏.‏

الرّابع‏:‏ - الآية /119/من سورة الأنعام، وقد جاء فيها‏:‏ ‏{‏وما لكم ألاّ تأكلوا ممّا ذكر اسم اللّه عليه وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه‏}‏‏.‏

الخامس‏:‏ - الآية/115/ من سورة النّحل، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ‏}‏‏.‏

88 - فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ‏}‏ معناه‏:‏ فمن دفعته الضّرورة وألجأته إلى تناول الميتة ونحوها، بأن يخاف عند ترك تناولها ضرراً على نفسه أو بعض أعضائه مثلاً‏.‏

‏(‏والباغي‏)‏، هو الّذي يبغي على غيره في تناول الميتة، بأن يؤثر نفسه على مضطرٍّ آخر، فينفرد بتناول الميتة ونحوها فيهلك الآخر من الجوع‏.‏ وقيل‏:‏ الباغي هو العاصي بالسّفر ونحوه، وسيأتي الخلاف فيه ‏(‏ف/100‏)‏‏.‏

‏(‏والعادي‏)‏‏:‏ هو الّذي يتجاوز ما يسدّ الرّمق ويندفع به الضّرر، أو يتجاوز حدّ الشّبع، على الخلاف الآتي‏.‏

‏(‏والمخمصة‏)‏‏:‏ المجاعة، والتّقييد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في مخمصةٍ‏}‏‏.‏ إنّما هو لبيان الحالة الّتي يكثر فيها وقوع الاضطرار، وليس المقصود به الاحتراز عن الحالة الّتي لا مجاعة فيها، فإنّ المضطرّ في غير المجاعة يباح له التّناول كالمضطرّ في المجاعة‏.‏

‏(‏والمتجانف للإثم‏)‏ هو المنحرف المائل إليه، أي الّذي يقصد الوقوع في الحرام، وهو البغي والعدوان المذكوران في الآيات الأخرى‏.‏

89 - وممّا ورد في السّنّة النّبويّة ما رواه أبو واقدٍ اللّيثيّ رضي الله عنه قال‏:‏ قلت‏:‏ «يا رسول اللّه إنّا بأرضٍ تصيبنا مخمصةٌ، فما يحلّ لنا من الميتة ‏؟‏ فقال‏:‏ إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها»‏.‏

غير أنّهم اختلفوا في المقصود بالإباحة، وفي حدّ الضّرورة المبيحة، وفي تفصيل المحرّمات الّتي يبيحها الاضطرار، وترتيبها عند التّعدّد، وفي الشّبع أو التّزوّد منها، وغير ذلك من المسائل‏.‏ وبيان ذلك ما يأتي‏.‏

المقصود بإباحة الميتة ونحوها

90 - اختلف الفقهاء في المقصود بإباحة الميتة ونحوها، فقال بعضهم‏:‏ المقصود جواز التّناول وعدمه، لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏‏.‏ وهذا القول ذهب إليه بعض المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إنّ المقصود بإباحة الميتة ونحوها للمضطرّ وجوب تناولها‏.‏ وإلى هذا ذهب الحنفيّة، وهو الرّاجح عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ودليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ وقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة‏}‏‏.‏ ولا شكّ أنّ الّذي يترك تناول الميتة ونحوها حتّى يموت يعتبر قاتلاً لنفسه، وملقياً بنفسه إلى التّهلكة، لأنّ الكفّ عن التّناول فعلٌ منسوبٌ للإنسان‏.‏

91 - ولا يتنافى القول بالوجوب عند القائلين به مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏ لأنّ نفي الإثم في الأكل عامٌّ يشمل حالتي الجواز والوجوب، فإذا وجدت قرينةٌ على تخصيصه بالوجوب عمل بها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما‏}‏ فنفي الجناح عن التّطوّف، أي السّعي بين الصّفا والمروة، مفهومٌ عامٌّ قد خصّص بما دلّ على وجوبه أو فرضيّته‏.‏

حدّ الضّرورة المبيحة

92 - قال أبو بكرٍ الجصّاص‏:‏ معنى الضّرورة في الآيات خوف الضّرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل‏.‏ وقد انطوى تحته معنيان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يحصل في وضعٍ لا يجد غير الميتة‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يكون غيرها موجوداً، ولكنّه أكره على أكلها بوعيدٍ يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه‏.‏ وكلا المعنيين مرادٌ بالآية عندنا لاحتمالهما‏.‏

وحالة الإكراه يؤيّد دخولها في معنى الاضطرار قول الرّسول عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»‏.‏ ويؤخذ من ‏"‏ الدّرّ المختار ‏"‏ أنّ الضّرورة تشمل خوف الهلاك، وخوف العجز عن الصّلاة قائماً أو عن الصّيام‏.‏

وفسّر ‏"‏ الشّرح الصّغير ‏"‏ للمالكيّة الضّرورة بخوف الهلاك أو شدّة الضّرر‏.‏

وفسّرها الرّمليّ الشّافعيّ في ‏"‏ نهاية المحتاج ‏"‏ بخوف الموت أو المرض أو غيرهما من كلّ محذورٍ يبيح التّيمّم، وكذا خوف العجز عن المشي، أو التّخلّف عن الرّفقة إن حصل له به ضررٌ، وكذا إجهاد الجوع إيّاه بحيث لا يستطيع معه الصّبر‏.‏ والمحذور الّذي يبيح التّيمّم عند الشّافعيّة هو حدوث مرضٍ أو زيادته أو استحكامه، أو زيادة مدّته، أو حصول شينٍ فاحشٍ في عضوٍ ظاهرٍ، بخلاف الشّين الفاحش في عضوٍ باطنٍ‏.‏ والظّاهر‏:‏ ما يبدو عند المهنة كالوجه واليدين، والباطن‏:‏ بخلافه‏.‏

ويعتمد في ذلك قول الطّبيب العدل في الرّواية‏.‏ وإذا كان المضطرّ عارفاً في الطّبّ عمل بمقتضى معرفته، ولا يعمل بتجربته إن كان مجرّباً، على ما قاله الرّمليّ‏.‏ وقال ابن حجرٍ‏:‏ يعمل بها، ولا سيّما عند فقد الطّبيب‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إنّ الضّرورة أن يخاف التّلف فقط لا ما دونه، هذا هو الصّحيح من المذهب، وقيل‏:‏ إنّها تشمل خوف التّلف أو الضّرر، وقيل‏:‏ أن يخاف تلفاً أو ضرراً أو مرضاً أو انقطاعاً عن الرّفقة يخشى معه الهلاك‏.‏

تفصيل المحرمات التي تبيحها الضرورة

93- ذكر في الآيات السابقة تحريم الميتة، والدم، ولم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب، فهذه كلها تبيحها الضرورة بلا خلاف‏.‏

وكذا كل حيوان حي من الحيونات التي لا تؤكل يحل للمضطر قتله بذبح أو بغير ذبح للتوصل إلى أكله‏.‏ وكذاما حرم من غير الحيونات لنجاسته، ويمثلون له بالترياق المشتمل على خمر ولحوم حيات‏.‏

أما ما حرم لكونه يقتل الإنسان إذا تناوله، كالسموم، فإن لا تبيحه الضرورة، لأن تناوله استعجال للموت وقتل للنفس، وهو من أكبر الكبائر‏.‏وهذا متفق عليه بين المذهب‏.‏

94-واختلفت الاجتهادات في الخمر فقال الحنفية‏:‏يشربها من خاف العطش ولم يجد غيرها، ولايشرب إلا قدر ما يدفع العطش، إن علم أنها تدفعه‏.‏

وقال المالكية والشافعية والحنابلة‏:‏ لايشرب المضطر الخمر الصرفة للعطش، وإنما يشربها من غص بلقمة أو غيرها، فلم يجد ما يزيل الغصة سوى الخمر‏.‏

شروط إباحة الميتة ونحوها للمضطرّ

95 - إنّ الفقهاء في كلامهم عن الاضطرار وأحكامه الاستثنائيّة لم يجمعوا شروط إباحة الميتة وغيرها من المحرّمات لمضطرٍّ تحت عنوانٍ خاصٍّ بالشّروط، بل يجدها المتتبّع مفرّقةً في خلال المسائل والأحكام‏.‏

ويستخلص من كلامهم عن حالات الاضطرار وأحكامها أنّ الشّروط الشّرعيّة الّتي يشترطها فقهاء المذاهب لإباحة المحرّمات للمضطرّ نوعان‏:‏

1 - شروطٌ عامّةٌ متّفقٌ عليها بين المذاهب لجميع أحوال الاضطرار‏.‏

2 - شروطٌ عامّةٌ اشترطتها بعض المذاهب دون سواها‏.‏

وفيما يلي بيان ذلك‏:‏

أوّلاً‏:‏ - الشّروط العامّة المتّفق عليها‏:‏

96 - يشترط في إباحة الميتة ونحوها للمضطرّ بوجهٍ عامٍّ ثلاثة شروطٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ - ألاّ يجد طعاماً حلالاً ولو لقمةً، فإن وجدها وجب تقديمها، فإن لم تغنه حلّ له المحرّم‏.‏

الثّاني‏:‏ - ألاّ يكون قد أشرف على الموت بحيث لا ينفعه تناول الطّعام، فإن انتهى إلى هذه الحالة لم يحلّ له المحرّم‏.‏

الثّالث‏:‏ - ألاّ يجد مال مسلمٍ أو ذمّيٍّ من الأطعمة الحلال، وفي هذا الشّرط بعض تفصيلٍ بيانه فيما يلي‏:‏

97 - قال الحنفيّة‏:‏ لو خاف المضطرّ الموت جوعاً، ومع رفيقه طعامٌ ليس مضطرّاً إليه فللمضطرّ أن يأخذ بالقيمة منه قدر ما يسدّ جوعته، فإن لم يكن معه ما يؤدّي به القيمة حالاً لزمته ديناً في ذمّته‏.‏ وإنّما تلزمه القيمة لأنّ من القواعد العامّة المقرّرة عندهم أنّ ‏"‏ الاضطرار لا يبطل حقّ الغير ‏"‏‏.‏ وكذا يأخذ من الماء الّذي لغيره ما يدفع العطش، فإن منعه صاحبه قاتله المضطرّ بلا سلاحٍ، لأنّ الرّفيق المانع في هذه الحال ظالمٌ‏.‏ فإن خاف الرّفيق جوعاً أو عطشاً ترك له بعضه‏.‏ ولا يحلّ له أن يدفع الجوع أو العطش بالمحرّمات كالميتة والخمر مع وجود حلال مملوكٍ لغيره ليس مضطرّاً إليه، والمضطرّ قادرٌ على أخذه ولو بالقوّة‏.‏ وجوّز المالكيّة في هذه الحال مقاتلة صاحب الطّعام بالسّلاح بعد الإنذار، بأن يعلمه المضطرّ أنّه مضطرٌّ، وأنّه إن لم يعطه قاتله، فإن قتله بعد ذلك فدمه هدرٌ، لوجوب بذل طعامه للمضطرّ، وإن قتله الآخر فعليه القصاص‏.‏

98 - وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لو وجد المضطرّ طعاماً لغيره‏.‏ فإن كان صاحبه غائباً ولم يجد المضطرّ سواه، أكل منه وغرم عند قدرته مثله إن كان مثليّاً، وقيمته إن كان قيميّاً، حفظاً لحقّ المالك‏.‏ فإن كان صاحبه حاضراً، فإن كان ذلك الحاضر مضطرّاً أيضاً لم يلزمه بذله للأوّل إن لم يفضل عنه، بل هو أولى، لحديثٍ‏:‏ «ابدأ بنفسك‏.‏‏.‏‏.‏»

لكن يجوز له إيثاره على نفسه إن كان الأوّل مسلماً معصوماً، واستطاع الثّاني الصّبر على التّضييق على نفسه‏.‏ فإن فضل بعد سدّ رمقه شيءٌ لزمه بذله للأوّل‏.‏ وإن لم يكن صاحب الطّعام الحاضر مضطرّاً لزمه إطعام المضطرّ‏.‏ فإن منعه، أو طلب زيادةً على ثمن المثل بمقدارٍ كثيرٍ جاز للمضطرّ قهره، وإن أدّى إلى قتله، ويكون دم المانع حينئذٍ مهدراً‏.‏ وإن قتل المالك المضطرّ في الدّفع عن طعامه لزمه القصاص‏.‏

وإن منع المالك الطّعام عن المضطرّ فمات هذا جوعاً لم يضمنه المانع بقصاصٍ ولا ديةٍ، لأنّه لم يحدث فعلاً مهلكاً‏.‏ فإن لم يمنع المالك الطّعام، ولكن طلب ثمناً، ولو بزيادةٍ على ثمن المثل بمقدارٍ يسيرٍ، لزم المضطرّ قبوله به، ولم يجز له قهره‏.‏ ولو أطعمه ولم يذكر عوضاً فلا عوض له على الأرجح، حملاً له على المسامحة المعتادة في الطّعام، ولا سيّما في حقّ المضطرّ‏.‏ وقيل‏:‏ يلزمه ثمن المثل، لأنّه خلص من الهلاك بذلك فيرجع عليه بالبدل، فإن اختلفا في ذكر العوض صدّق المالك بيمينه، إذ لو لم يصدّق لرغب النّاس عن إطعام المضطرّ، وأفضى ذلك إلى الضّرر‏.‏

ثانياً‏:‏ - الشّروط العامّة المختلف فيها‏:‏

99 - اختلف فقهاء المذاهب في بعض الشّرائط المبيحة لأكل الميتة ونحوها من المحرّمات للمضطرّ‏:‏

فاشترط الشّافعيّة أن يكون المضطرّ نفسه معصوم الدّم‏.‏ فإن كان المضطرّ مهدر الدّم شرعاً كالحربيّ، والمرتدّ، وتارك الصّلاة الّذي استوجب القتل، لم يجز له أكل المحرّمات من ميتةٍ أو غيرها إلاّ إذا تاب‏.‏

أمّا مهدر الدّم الّذي لا تفيد توبته عصمة دمه، كالزّاني المحصن، والقاتل في قطع الطّريق الّذي قدر عليه الحاكم، فقيل‏:‏ لا يأكل الميتة حتّى يتوب وإن لم تكن توبته مفيدةً لعصمته‏.‏ وقيل‏:‏ لا يتوقّف حلّ الميتة له على توبته‏.‏

100 - واشترط الشّافعيّة والحنابلة ألاّ يكون المضطرّ عاصياً بسفره أو بإقامته‏.‏ فإن كان كذلك لم يحلّ له تناول الميتة ونحوها حتّى يتوب‏.‏

والعاصي بسفره أو بإقامته هو الّذي نوى بسفره أو إقامته المعصية، أي هو الّذي سافر أو أقام لأجل المعصية، كمن خرج من بلده ناوياً قطع الطّريق، وكذا الّذي قصد بسفره أو إقامته أموراً مباحةً ثمّ قلبه معصيةً، كمن سافر أو أقام للتّجارة ثمّ بدا له أن يجعل السّفر أو الإقامة لقطع الطّريق‏.‏

وأمّا العاصي في أثناء السّفر - وهو من سافر سفراً مباحاً، وفي أثناء سفره عصى بتأخير الصّلاة عن وقتها، أو بالزّنى وهو غير محصنٍ، أو بالسّرقة أو نحو ذلك - فلا يتوقّف حلّ أكله للميتة ونحوها على توبته‏.‏ ومثله العاصي في إقامته، كمن كان مقيماً في بلده لغرضٍ مباحٍ، وعصى فيها بنحو ما سبق، فإنّه يباح له الأكل من المحرّم إن اضطرّ إليه من غير توقّفٍ على التّوبة‏.‏

والوجه لمنع المسافر سفر معصيةٍ أنّ أكل الميتة رخصةٌ، والعاصي بسفره أو إقامته ليس من أهلها، وأيضاً في الأكل المذكور عونٌ على المعصية فلا يجوز‏.‏

101 - أمّا الحنفيّة والمالكيّة، فقالوا‏:‏ لا يشترط في المضطرّ عدم المعصية، لإطلاق النّصوص وعمومها‏.‏

##

إطلاقٌ

التعريف

1 - من معاني الإطلاق في اللّغة‏:‏ التّخلية، والحلّ والإرسال، وعدم التّقييد‏.‏

وعند الفقهاء والأصوليّين يؤخذ تعريف الإطلاق من بيان المطلق، فالمطلق اسم مفعولٍ من أطلق، والمطلق‏:‏ ما دلّ على فردٍ شائعٍ، أو هو‏:‏ ما دلّ على الماهيّة بلا قيدٍ‏.‏ أو هو‏:‏ ما لم يقيّد بصفةٍ تمنعه أن يتعدّاها إلى غيرها‏.‏

كما يراد بالإطلاق‏:‏ استعمال اللّفظ في معناه حقيقةً كان أو مجازاً‏.‏ كما يأتي أيضاً بمعنى النّفاذ، فإطلاق التّصرّف نفاذه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العموم

2 - تظهر صلة الإطلاق بالعموم من بيان العلاقة بين المطلق والعامّ، فالمطلق يشابه العامّ من حيث الشّيوع حتّى ظنّ أنّه عامٌّ‏.‏ لكن هناك فرقاً بين العامّ والمطلق، فالعامّ عمومه شموليٌّ، وعموم المطلق بدليٌّ‏.‏ فمن أطلق على المطلق اسم العموم فهو باعتبار أنّ موارده غير منحصرةٍ‏.‏

والفرق بينهما‏:‏ أنّ عموم الشّموليّ كلّيٌّ يحكم فيه على كلّ فردٍ فردٍ‏.‏ وعموم البدل كلّيٌّ من حيث إنّه لا يمنع نفس تصوّر مفهومه من وقوع الشّركة فيه، ولكن لا يحكم فيه على كلّ فردٍ، بل على فردٍ شائعٍ في أفراده، يتناولها على سبيل البدل، ولا يتناول أكثر من واحدٍ دفعةً‏.‏ وفي تهذيب الفروق نقلاً عن الأنبابيّ‏:‏ عموم العامّ شموليٌّ، بخلاف عموم المطلق، نحو رجلٍ وأسدٍ وإنسانٍ، فإنّه بدليٌّ، حتّى إذا دخلت عليه أداة النّفي أو أل الاستغراقيّة صار عامّاً‏.‏

ب - التّنكير

3 - يتّضح الفرق بين الإطلاق والتّنكير من بيان الفرق بين المطلق والنّكرة، فيرى بعض الأصوليّين، أنّه لا فرق بين النّكرة والمطلق، لأنّ تمثيل جميع العلماء المطلق بالنّكرة في كتبهم يشعر بعدم الفرق‏.‏ وفي تيسير التّحرير‏:‏ المطلق والنّكرة بينهما عمومٌ من وجهٍ، لصدقهما في نحو‏:‏ تحرير رقبةٍ، وانفراد النّكرة عنه إذا كانت عامّةً، كما إذا وقعت في سياق النّفي، وانفراد المطلق عنها في نحو اشتر اللّحم‏.‏ هذا عند الإطلاق، فإن قيّدت النّكرة كانت مباينةً للمطلق‏.‏

الشّيء المطلق ومطلق الشّيء‏:‏

4 - الشّيء المطلق عبارةٌ عن الشّيء من حيث الإطلاق، وهو ما صدق عليه اسم الشّيء بلا قيدٍ لازمٍ، ومنه قول الفقهاء‏:‏ يرفع الحدث بالماء المطلق أي غير المقيّد بقيدٍ، فخرج به ماء الورد، وماء الزّعفران، والماء المعتصر من شجرٍ أو ثمرٍ، وكذلك الماء المستعمل عند أكثر الفقهاء، لأنّها مياهٌ مقيّدةٌ بقيدٍ لازمٍ لا يطلق الماء عليه بدونه، بخلاف ماء البحر وماء البئر وماء السّماء ونحوها، لأنّ القيود فيها غير لازمةٍ، وتستعمل بدونها، فهي مياهٌ مطلقةٌ‏.‏

أمّا مطلق الشّيء فهو عبارةٌ عن الشّيء من حيث هو من غير أن يلاحظ معه الإطلاق أو التّقييد، فيصدق على أيّ شيءٍ مطلقاً كان أو مقيّداً‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ مطلق الماء، فيدخل فيه الماء الطّاهر والطّهور والنّجس وغيرها من أنواع المياه المقيّدة ‏(‏كماء الورد والزّعفران‏)‏ والمطلقة‏.‏ فالشّيء المطلق أخصّ من مطلق الشّيء ‏(‏الشّامل للمقيّد‏)‏‏.‏ ومثل ذلك ما يقال في البيع المطلق، ومطلق البيع، والطّهارة المطلقة، ومطلق الطّهارة وأمثالها‏.‏

مواطن الإطلاق

5 - يتناول الأصوليّون الإطلاق في عدّة مواضع منها‏:‏ مسألة حمل المطلق على المقيّد، ومنها‏:‏ مقتضى الأمر هل هو للتّكرار أو لا ‏؟‏ وهل هو للفور أو لا ‏؟‏ وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

مواطن الإطلاق عند الفقهاء

أوّلاً‏:‏ إطلاق النّيّة في الطّهارة‏:‏

أ - الوضوء والغسل ‏:‏

6 - لو نوى المتوضّئ مطلق ‏(‏الطّهارة‏)‏ أو مطلق ‏(‏الوضوء‏)‏، لا لرفع حدثٍ، ولا لاستباحة صلاةٍ، أو نحوها، ففي ارتفاع الحدث وعدمه رأيان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه لا يرتفع، لعدم نيّته له‏.‏ وهذا أحد الرّأيين عند الجمهور، وهم الّذين يشترطون النّيّة لصحّة الطّهارة‏.‏ وعلّلوا لذلك بأنّ الطّهارة قسمان‏:‏ طهارة حدثٍ، وطهارة نجسٍ، فإذا قصد الطّهارة المطلقة، فإنّ ذلك لا يرفع الحدث‏.‏

والرّأي الأصحّ للجمهور أنّه يرتفع، لأنّ الطّهارة والوضوء إنّما ينصرف إطلاقهما إلى المشروع، فيكون ناوياً لوضوءٍ شرعيٍّ‏.‏ ولا دخل لمذهب الحنفيّة في هذه المسألة، فالنّيّة سنّةٌ عندهم وليست شرطاً في الوضوء‏.‏

ب - التّيمّم ‏:‏

7 - جمهور الفقهاء على أنّ المتيمّم لو نوى استباحة الصّلاة، وأطلق ولم يقيّد تلك الصّلاة بفرضٍ أو نفلٍ، صلّى النّافلة مع هذا الإطلاق‏.‏ وللشّافعيّة وجهٌ ضعيفٌ أنّه لا يستبيح به النّفل‏.‏ وللفقهاء في صلاة الفرض بهذا التّيمّم رأيان‏:‏

أحدهما‏:‏ صحّة صلاة الفرض، وهو قول الحنفيّة، وقولٌ عند الشّافعيّة اختاره إمام الحرمين والغزاليّ، لأنّها طهارةٌ يصحّ بها النّفل، فصحّ بها الفرض كطهارة الماء، ولأنّ الصّلاة اسم جنسٍ تتناول الفرض والنّفل‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّه لا يستبيح به الفرض، وهو قول المالكيّة، والحنابلة، وهو أحد قولي الشّافعيّة‏.‏

إطلاق النّيّة في الصّلاة

أ - صلاة الفرض ‏:‏

8 - جمهور الفقهاء على أنّه يشترط التّعيين في نيّة الفرض وأنّ الإطلاق لا يكفي‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ وكذا الواجب من وترٍ أو نذرٍ أو سجود تلاوةٍ، وكذا يشترط التّعيين في نيّة سجدة الشّكر، بخلاف سجود السّهو‏.‏ وفي روايةٍ عن أحمد أنّه لا يشترط التّعيين في نيّة صلاة الفرض‏.‏

ب - النّفل المطلق ‏:‏

9 - يتّفق الفقهاء على أنّ الإطلاق يكفي في نيّة صلاة النّفل المطلق، وألحق بعض الشّافعيّة بالنّفل المطلق تحيّة المسجد، وركعتي الوضوء، وركعتي الإحرام، وركعتي الطّواف، وصلاة الحاجة، وصلاة الغفلة بين المغرب والعشاء، والصّلاة في بيته إذا أراد الخروج للسّفر، والمسافر إذا نزل منزلاً وأراد مفارقته‏.‏

ج - السّنن الرّواتب، والمؤقّتة ‏:‏

10 - للفقهاء في إطلاق النّيّة في صلاة السّنّة الرّاتبة، والمؤقّتة رأيان‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّه لا يكفي الإطلاق لحصول تلك السّنّة الرّاتبة‏.‏ وهو قول المالكيّة، والشّافعيّة والحنابلة باستثناء النّوافل الّتي ألحقت بالنّفل المطلق عند البعض والّتي سبق ذكرها‏.‏ وهو قول جماعةٍ من الحنفيّة، قالوا‏:‏ لأنّ السّنّة وصفٌ زائدٌ على أصل الصّلاة، كوصف الفرضيّة، فلا تحصل بمطلق نيّة الصّلاة‏.‏

الثّاني‏:‏ صحّة النّيّة مع الإطلاق، وهو أحد قولين للحنفيّة مصحّحين، واعتمده بعضهم‏.‏ وفي المحيط أنّه قول عامّة المشايخ، ورجّحه في الفتح، ونسبه إلى المحقّقين‏.‏

إطلاق النّيّة في الصّوم

11 - للفقهاء في إطلاق نيّة الصّوم رأيان‏:‏

الأوّل‏:‏ عدم الصّحّة مع الإطلاق، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ واستدلّوا له بأنّه صومٌ واجبٌ فوجب تعيين النّيّة له‏.‏

والثّاني‏:‏ صحّة الصّوم، وهو قول الحنفيّة، وروايةٌ عن أحمد، ووجهٌ شاذٌّ للشّافعيّة حكاه صاحب التّتمّة عن الحليميّ، واستدلّوا لذلك بأنّه فرضٌ مستحقٌّ في زمنٍ بعينه، فلا يجب تعيين النّيّة له‏.‏

إطلاق نيّة الإحرام

12 - إذا نوى مريد النّسك نفس الإحرام، وأطلق بأن لم يقصد القران، ولا التّمتّع ولا الإفراد جاز بلا خلافٍ، لأنّ الإحرام يصحّ مع الإبهام فيصحّ مع الإطلاق‏.‏ وله صرفه إلى أيّ نوعٍ شاء من أنواع الإحرام الثّلاثة، إن كان ذلك قبل الشّروع في أعمال الإحرام، وكان في أشهر الحجّ، غير أنّ المالكيّة والحنابلة قالوا‏:‏ الأولى الصّرف إلى العمرة، لأنّ التّمتّع أفضل‏.‏

وما عمله قبل التّعيين فلغوٌ عند الشّافعيّة، والحنابلة، وعند الحنفيّة والمالكيّة، يعتدّ بما أتى به من الشّعائر، غير أنّهم يختلفون فيما تصرف النّيّة له، فقال الحنفيّة‏:‏ تصرف إلى العمرة إن لم يعيّن، وقد طاف، لكن في اللّباب وشرحه لو وقف بعرفة قبل الطّواف تعيّن إحرامه للحجّ، ولو لم يقصد الحجّ في وقوفه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يجب صرفه إلى الحجّ إن وقع الصّرف بعد طواف قدومٍ‏.‏

13 - وإن كان الإحرام بنسكٍ ولم يعيّن وذلك في غير أشهر الحجّ - على كراهته أو امتناعه عند الحنابلة - فالحكم لا يختلف عندهم في أنّ الأولى صرف النّيّة إلى العمرة‏.‏

وكذا لا يختلف الحكم عند المالكيّة في غير أشهر الحجّ عن أشهر الحجّ إن كان طاف قبل التّعيين - يجب صرف النّيّة للحجّ - ويؤخّر سعيه لإفاضته، فإن لم يكن قد طاف كره صرف النّيّة إلى الحجّ، لأنّه أحرم به قبل وقته‏.‏ وفصّل الشّافعيّة في ذلك فقالوا‏:‏ إن أحرم قبل الأشهر، فإن صرفه إلى العمرة صحّ، وإن صرفه إلى الحجّ بعد دخول الأشهر فوجهان، الصّحيح‏:‏ لا يجوز بل انعقد إحرامه، ‏(‏أي عمرةً‏)‏‏.‏

والثّاني‏:‏ ينعقد مبهماً، وله صرفه بعد دخول أشهر الحجّ إلى حجٍّ أو قرانٍ، فإن صرفه إلى الحجّ قبل الأشهر كان كمن أحرم بالحجّ قبل الأشهر‏.‏

14 - وهل الإطلاق أفضل أم التّعيين ‏؟‏ رأيان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّ التّعيين أفضل، وهو قول الحنابلة، فقد صرّحوا باستحباب التّعيين، وبه قال مالكٌ، وهو قول بعض الشّافعيّة‏.‏ ثانيهما‏:‏ الإطلاق أفضل، وهو الأظهر ند الشّافعيّة‏.‏

مواطن البحث

15 - بالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء والأصوليّون عن الإطلاق في المواطن الآتية‏:‏

-الملك المطلق، والملك المقيّد‏.‏

- العقود إذا وقعت على اسمٍ مطلقٍ، هل تصحّ أم لا ‏؟‏

- في المضاربة والوكالة -اختلاف العامل، والمالك والوكيل، والموكّل، في الإطلاق، والتّقييد‏.‏

- الإقرار المطلق‏.‏

- الوقف المطلق‏.‏

- وفي الظّهار والطّلاق‏.‏

- الإطلاق في الإجارة‏.‏

- الإطلاق في الوصيّة والوقف‏.‏

- القضاء - في تعريف الحكم، وهل هو إنشاء إلزامٍ أم إطلاقٌ ‏؟‏

- الإطلاق في التّصرّفات عن الغير‏.‏

- تقييد المطلق بالعرف، وقد أفرد السّيوطيّ المبحث الخامس من كتاب الأشباه والنّظائر في كلّ ما جاء به الشّرع مطلقاً، ولا ضابط له فيه ولا في اللّغة‏.‏

- حمل المطلق على المقيّد‏.‏

- تقييد المطلق بما يخصّص به العامّ‏.‏

- النّذر المطلق والتّحلّل منه‏.‏

وتفصيل كلّ مسألةٍ من هذه المسائل في بابها‏.‏

اطمئنانٌ

التعريف

1 - الاطمئنان في اللّغة‏:‏ السّكون، يقال‏:‏ اطمأنّ القلب‏:‏ سكن ولم يقلق، واطمأنّ في المكان‏:‏ أقام به‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين الإطلاقين، فإنّ الاطمئنان في الرّكوع والسّجود بمعنى استقرار الأعضاء في أماكنها عن الحركة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العلم ‏:‏

2 – العلم‏:‏ هو اعتقاد الشّيء على ما هو عليه على سبيل الثّقة، أمّا الاطمئنان فهو سكون النّفس إلى هذا العلم‏.‏ وعلى هذا فقد يوجد العلم ولا يوجد الاطمئنان‏.‏

ب - اليقين ‏:‏

3 - اليقين‏:‏ هو سكون النّفس المستند إلى اعتقاد الشّيء بأنّه لا يمكن أن يكون إلاّ كذا‏.‏ أمّا الاطمئنان فهو سكون النّفس المستند إلى غلبة الظّنّ، وعلى هذا فإنّ اليقين أقوى من الاطمئنان‏.‏

اطمئنان النّفس

4 - اطمئنان النّفس أمرٌ غير مقدورٍ للإنسان، لأنّه من أعمال القلب الّتي لا سلطان له عليها، ولكن يطالب الإنسان بتحصيل أسبابه‏.‏

ما يحصل به الاطمئنان

5 - بالاستقراء يتبيّن أنّ الاطمئنان يحصل شرعاً بما يلي‏:‏

أ - ذكر اللّه تعالى، لقوله سبحانه ‏{‏ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب‏}‏‏.‏

ب - الدّليل‏:‏ والدّليل قد يكون شرعيّاً من قرآنٍ أو سنّةٍ، وقد يكون عقليّاً من قياسٍ على علّةٍ مستنبطةٍ، أو قرينةٍ قويّةٍ من قرائن الأحوال، وقد يكون خبراً من مخبرٍ صادقٍ‏.‏

ج - استصحاب الحال‏:‏ ومن هنا قبلت شهادة مستور الحال، لأنّ الأصل في المسلمين العدالة‏.‏ كما هو مفصّلٌ في كتاب الشّهادات من كتب الفقه‏.‏

د - مضيّ مدّةٍ معيّنةٍ‏:‏ إذ أنّ مضيّ سنةٍ على العنّين دون أن يستطيع أن يأتي أهله يوجد طمأنينةً حكميّةً بعجزه عن المعاشرة عجزاً دائماً‏.‏ ومضيّ مدّة الانتظار في المفقود - عند من يقول بها - يوجد طمأنينةً حكميّةً أنّه لن يعود، وتأخير أداء الشّهادة في الحدود يوجد طمأنينةً حكميّةً بأنّ الشّاهد إنّما شهد عن ضغنٍ ‏(‏أي حقدٍ‏)‏‏.‏

هـ – القرعة‏:‏ وهي عند من يقول بها توجد طمأنينةً حكميّةً بأنّه لم يحدث جورٌ أو هوًى، لأنّها لتطييب القلوب، كما في القسمة ونحوها‏.‏

الاطمئنان الحسّيّ

6 - يكون ذلك في الصّلاة‏:‏ وحده في الرّكوع والسّجود والقيام - فهو سكون الجوارح واستقرار كلّ عضوٍ في محلّه - بقدر تسبيحةٍ‏.‏

وحكمه الوجوب عند الجمهور، وعند بعض الحنفيّة سنّةٌ‏.‏ وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة من كتب الفقه‏.‏

والذّبيحة لا يجوز تقطيع أوصالها بعد ذبحها حتّى تسكن حركتها، لأنّ ذلك دليل إزهاق روحها، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الذّبائح‏.‏

آثار الاطمئنان

7 - يترتّب على الاطمئنان أثران‏:‏

أوّلهما‏:‏ وقوع العمل المبنيّ على الاطمئنان صحيحاً في الشّرع‏.‏ فمن تحرّى الأواني الّتي بعضها طاهرٌ وبعضها نجسٌ، فاطمأنّ قلبه إلى هذا الإناء منها طاهرٌ، فتوضّأ منه، وقع وضوءه صحيحاً، كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الطّهارة‏.‏

ثانيهما‏:‏ أنّ ما خالف هذا الاطمئنان هو هدرٌ ولا قيمة له، وكلّ ما بني عليه من التّصرّفات باطلٌ، فمن تحرّى جهة القبلة حتّى اطمأنّ قلبه إلى جهةٍ ما أنّ القبلة نحوها، فصلّى إلى غير هذه الجهة فصلاته باطلةٌ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة‏.‏ وإذا اطمأنّ قلب إنسانٍ بالإيمان، ثمّ أكره على إتيان ما يخالف هذا الإيمان لا يضرّه ذلك شيئاً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏من كفر باللّه من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من اللّه ولهم عذابٌ عظيمٌ‏}‏‏.‏

قال القرطبيّ‏:‏ أجمع أهل العلم على أنّ من أكره على الكفر، حتّى خشي على نفسه القتل، أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر‏.‏

أظفارٌ

التعريف

1 - الأظفار جمع ظفرٍ، ويجمع أيضاً على أظفرٍ، وأظافير‏.‏ والظّفر معروفٌ، يكون للإنسان وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الظّفر لما لا يصيد، والمخلب لما يصيد‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالأظفار‏:‏

تقليم الأظفار‏:‏

2 - تقليم الأظفار سنّةٌ عند الفقهاء للرّجل والمرأة، لليدين والرّجلين، لما روى أبو هريرة قال‏:‏ «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ خمسٌ من الفطرة‏:‏ الاستحداد، والختان، وقصّ الشّارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار»‏.‏ والمراد بالتّقليم إزالة ما زيد على ما يلامس رأس الإصبع، ويستحبّ أن يبدأ باليد اليمنى ثمّ اليسرى، ثمّ الرّجل اليمنى ثمّ اليسرى‏.‏ وقال ابن قدامة‏:‏ روي في حديث‏:‏ «من قصّ أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً»‏.‏ وفسّره ابن بطّة، بأن يبدأ بخنصر اليمنى، ثمّ الوسطى ثمّ الإبهام، ثمّ البنصر ثمّ السّبّابة‏.‏

أمّا التّوقيت في تقليم الأظفار فهو معتبرٌ بطولها‏:‏ فمتى طالت قلّمها، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال، وقيل‏:‏ يستحبّ تقليم الأظفار كلّ يوم جمعةٍ، لما روي عن أنس بن مالكٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنّه وقّت لهم في كلّ أربعين ليلةً تقليم الأظفار، وأخذ الشّارب، وحلق العانة» وفي روايةٍ عن أنسٍ أيضاً «وقّت لنا في قصّ الشّارب وتقليم الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط ألاّ نترك أكثر من أربعين يوماً»‏.‏

قال السّخاويّ‏:‏ لم يثبت في كيفيّة قصّ الأظفار ولا في تعيين يومٍ له شيءٌ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

توفير الأظفار للمجاهدين في بلاد العدوّ

3 - ينبغي للمجاهدين أن يوفّروا أظفارهم في أرض العدوّ فإنّه سلاحٌ، قال أحمد‏:‏ يحتاج إليها في أرض العدوّ، ألا ترى أنّه إذا أراد أن يحلّ الحبل أو الشّيء فإذا لم يكن له أظفارٌ لم يستطع‏.‏ وقال عن الحكم بن عمرٍو‏:‏ «أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ألاّ نحفي الأظفار في الجهاد، فإنّ القوّة في الأظفار»‏.‏

قصّ الأظفار في الحجّ وما يجب فيه

4 - ممّا يندب لمن يريد الإحرام تقليم الأظفار، فإذا دخل في الإحرام فقد أجمع أهل العلم على أنّه ممنوعٌ من قصّ أظفاره إلاّ من عذرٍ، لأنّ قطع الأظفار إزالة جزءٍ يترفّه به، فحرم، كإزالة الشّعر، وتفصيل حكمه إذا قصّه ينظر في مصطلح إحرامٌ‏.‏

إمساك المضحّي عن قصّ أظفاره

5 - ذهب بعض الحنابلة وبعض الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّ من أراد أن يضحّي فدخل العشر من ذي الحجّة يجب عليه أن يمسك عن قصّ الشّعر والأظفار، وهو قول إسحاق وسعيد بن المسيّب‏.‏ وقال الحنفيّة، والمالكيّة، وهو قول بعض الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يسنّ له أن يمسك عن قصّ الشّعر والأظفار‏.‏ لما روت أمّ سلمة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئاً حتّى يضحّي»‏.‏ وفي روايةٍ أخرى عن أمّ سلمة مرفوعاً‏:‏ «من كان له ذبحٌ يذبحه، فإذا أهلّ هلال ذي الحجّة، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتّى يضحّي»‏.‏

والحكمة في ذلك بقاؤه كامل الأجزاء، لتشملها المغفرة والعتق من النّار‏.‏ ويفهم من كلام الشّافعيّة والحنابلة أنّهم أطلقوا طلب ترك الأظفار والشّعر في عشرٍ من ذي الحجّة لمن أراد التّضحية مطلقاً، سواءٌ أكان يملك الأضحيّة أم لا‏.‏

دفن قلامة الظّفر

6 - يستحبّ دفن الظّفر، إكراماً لصاحبه‏.‏ وكان ابن عمر يدفن الأظفار‏.‏

الذّبح بالأظفار

7 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو رأيٌ للمالكيّة إلى تحريم الذّبح بالظّفر والسّنّ مطلقاً، وقالوا‏:‏ إنّ المذبوح بهذه الأشياء ميتةٌ لا يحلّ أكلها، لأنّه قاتلٌ وليس بذابحٍ‏.‏ ولقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه فكل، ليس الظّفر والسّنّ‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ ووافقهم الحنفيّة، وكذلك المالكيّة في أحد أقوالٍ عندهم إذا كان الظّفر والسّنّ قائمين غير منزوعين، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنهر الدّم»، وما رواه الشّافعيّة محمولٌ على غير المنزوع، فإنّ الحبشة كانوا يفعلون ذلك إظهاراً للجلد‏.‏ ولأنّها إذا انفصلت كانت آلةً جارحةً، فيحصل بها المقصود، وهو إخراج الدّم، فصار كالحجر والحديد، بخلاف غير المنزوع فإنّه يقتل بالثّقل، فيكون في معنى الموقوذة‏.‏

وفي رأيٍ للمالكيّة يجوز الذّبح بالظّفر والسّنّ مطلقاً سواءٌ أكانا قائمين أم منفصلين‏.‏

طلاء الأظفار

8 - الطّهارة من الحدث تقتضي تعميم الماء على أعضاء الوضوء في الحدث الأصغر، وعلى الجسم في الحدث الأكبر، وإزالة كلّ ما يمنع وصول الماء إلى تلك الأعضاء، ومنها الأظفار، فإذا منع مانعٌ من وصول الماء إليها من طلاءٍ وغيره - من غير عذرٍ - لم يصحّ الوضوء، وكذلك الغسل، لما روى عليٌّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ترك موضع شعرةٍ من جنابةٍ لم يصبها الماء، فعل به من النّار كذا وكذا»‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه «أنّ رجلاً توضّأ فترك موضع ظفرٍ على قدميه، فأبصره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ارجع فأحسن وضوءك»‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏وضوءٌ - غسلٌ‏)‏‏.‏

أثر الوسخ المتجمّع تحت الأظفار في الطّهارة

9 - إذا كان تحت الأظفار وسخٌ يمنع وصول الماء إلى ما تحته، فقد ذهب المالكيّة، والحنفيّة في الأصحّ عندهم، إلى أنّه لا يمنع الطّهارة، وعلّلوا ذلك بالضّرورة، وبأنّه لو كان غسله واجباً لبيّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم «وقد عاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم كونهم يدخلون عليه قلحاً ورفغ أحدهم بين أنمله وظفره»‏.‏ يعني أنّ وسخ أرفاغهم تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها، فعاب عليهم نتن ريحها لا بطلان طهارتهم، ولو كان مبطلاً للطّهارة لكان ذلك أهمّ فكان أحقّ بالبيان‏.‏

وقال الحنابلة، وهو رأيٌ للحنفيّة، والمفهوم من مذهب الشّافعيّة‏:‏ لا تصحّ الطّهارة حتّى يزيل ما تحت الأظفار من وسخٍ، لأنّه محلٌّ من اليد استتر بما ليس من خلقه، وقد منع إيصال الماء إليه مع إمكان إيصاله‏.‏

الجناية على الظّفر

10 - لو جني على الظّفر في غير العمد، فقلع ونبت غيره، قال المالكيّة ومحمّدٌ وأبو يوسف من الحنفيّة، وهو رأيٌ للشّافعيّة‏:‏ فيه أرش الألم، وهو حكومة عدلٍ، بقدر ما لحقه إلى أن يبرأ، من النّفقة من أجرة الطّبيب وثمن الدّواء‏.‏

وقال أبو حنيفة وهو رأيٌ آخر للشّافعيّة‏:‏ ليس فيه شيءٌ‏.‏ أمّا إذا لم ينبت غيره ففيه الأرش، وقدّر بخمسٍ من الإبل‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا جني على الظّفر ولم يعد، أو عاد أسود ففيه خمس دية الإصبع، وهو منقولٌ عن ابن عبّاسٍ، وفي ظفرٍ عاد قصيراً أو عاد متغيّراً أو أبيض ثمّ أسود لعلّةٍ حكومة عدلٍ‏.‏ وهذا في غير العمد، أمّا في العمد ففيه القصاص‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏قصاصٌ - أرشٌ‏)‏‏.‏

الجناية بالظّفر

11 - لمّا كان تعمّد القتل أمراً خفيّاً، نظر الفقهاء إلى الآلة المستعملة في القتل، فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا قصاص في القتل العمد إلاّ إذا كان بسلاحٍ أو ما جرى مجراه، من محدّدٍ من الخشب أو الحجر العظيم أو غيرهما، وذهب جمهور الفقهاء، ومنهم أبو يوسف ومحمّدٌ إلى أنّ آلة العمد هي ما تقتل غالباً، مثل الحجر العظيم والخشبة الكبيرة وكلّ ما يقتل، على تفصيلٍ وخلافٍ بينهم في الضّوابط المعتبرة في ذلك يرجع إليها في‏:‏ ‏(‏مسائل الجنايات والقصاص‏)‏ وعلى هذا فإذا كان الظّفر متّصلاً أو منفصلاً معدّاً للقتل والجناية فهو ممّا يقتل غالباً ويثبت به العمد عندهم، خلافاً لأبي حنيفة، وأمّا إذا لم يكن معدّاً لذلك، وتعمّد الضّرب به فهو شبه عمدٍ، ولا قصاص فيه، بل يكون فيه الدّية المغلّظة‏.‏

طهارة الظّفر ونجاسته

12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ظفر الإنسان طاهرٌ، حيّاً كان الإنسان أو ميّتاً، وسواءٌ أكان الظّفر متّصلاً به، أم منفصلاً عنه، وذهب بعض الحنابلة في قولٍ مرجوحٍ إلى نجاسة أجزاء الآدميّ، وبعضهم إلى نجاسة الكافر بالموت دون المسلم، وهذا الخلاف عندهم في غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحيح عندهم ما وافق الجمهور‏.‏

أمّا الحيوان، فإن كان نجس العين ‏(‏الذّات‏)‏، كالخنزير، فإنّ ظفره نجسٌ، وأمّا إذا كان الحيوان طاهر العين، فظفره المتّصل به حال حياته طاهرٌ‏.‏ فإن ذكّي فهو طاهرٌ أيضاً، أمّا إذا مات فظفره نجسٌ كميتته، وكذا إذا انفصل الظّفر حال حياته فإنّه نجسٌ أيضاً، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أبين من حيٍّ فهو ميتٌ»‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الظّفر من غير الخنزير طاهرٌ مطلقاً، سواءٌ كان من مأكولٍ أو غير مأكولٍ، من حيٍّ أو ميّتٍ، لأنّ الحياة لا تحلّه، والّذي ينجس بالموت إنّما هو ما حلّته الحياة دون غيره‏.‏

إظهارٌ

التعريف

1 - الإظهار في اللّغة‏:‏ التّبيين، والإبراز بعد الخفاء، بقطع النّظر عمّا إذا علم بالتّصرّف المظهر أحدٌ أو لم يعلم‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عمّا ذكر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإفشاء

2 - إذا كان الإظهار‏:‏ الإبراز بعد الخفاء، فإنّ الإفشاء هو كثرة الإظهار، في أماكن ومناسباتٍ كثيرةٍ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ألا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ‏؟‏ أفشوا السّلام بينكم» أي أكثروا من التّسليم على بعضكم‏.‏ فالإفشاء أخصّ من الإظهار‏.‏

ب - الجهر

3 - الجهر هو‏:‏ المبالغة في الإظهار وعمومه، ألا ترى أنّك إذا كشفت الأمر للرّجل والرّجلين قلت‏:‏ أظهرته لهما، ولا تقول جهرت به إلاّ إذا أظهرته للجماعة الكثيرة، ومن هنا يقول العلماء‏:‏ الجهر بالدّعوة، ويعنون إعلانها للملأ‏.‏ فالجهر أخصّ من الإظهار، فإنّ الجهر هو المبالغة في الإظهار‏.‏

ج - الإعلان

4 - الإعلان ضدّ الإسرار، وهو المبالغة في الإظهار، ومن هنا قالوا‏:‏ يستحبّ إعلان النّكاح، ولم يقولوا إظهاره، لأنّ إظهاره يكون بالإشهاد عليه، أمّا إعلانه فإعلام الملأ به‏.‏

الحكم التّكليفيّ

يختلف حكم الإظهار باختلاف متعلّقه على ما سيأتي‏:‏

الإظهار عند علماء التّجويد

5 - يطلق علماء التّجويد كلمة إظهارٍ، ويريدون بها‏:‏ إخراج الحرف من مخرجه بغير غنّةٍ ولا إدغامٍ‏.‏ وهم يقسّمون الإظهار إلى قسمين‏:‏

القسم الأوّل‏:‏ إظهارٌ حلقيٌّ، ويكون الإظهار الحلقيّ عندما يأتي بعد النّون السّاكنة أو التّنوين، أحد الحروف التّالية ‏(‏أ - هـ -ع -غ -ح -خ‏)‏

القسم الثّاني ‏:‏ إظهارٌ شفويٌّ‏:‏ ويكون الإظهار شفويّاً إذا جاء بعد الميم السّاكنة أيّ حرفٍ من حروف الهجاء عدا ‏(‏م - ب‏)‏ والأصل في حروف الهجاء الإظهار، ولكنّ بعض الحروف - ولا سيّما النّون والميم - قد تدغم أحياناً، ولهذا عني ببيان أحكامها من حيث الإظهار والإدغام‏.‏ وتفصيل ذلك في علم التّجويد‏.‏

إظهار نعم اللّه تعالى

6 - إذا أنعم اللّه تعالى على امرئٍ نعمةً فينبغي أن يظهر أثرها عليه، لقوله تعالى في سورة الضّحى‏:‏ ‏{‏وأمّا بنعمة ربّك فحدّث‏}‏ ولما رواه النّسائيّ عن مالك بن نضلة الجشميّ قال‏:‏ «دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرآني سيّئ الهيئة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل لك من شيءٍ ‏؟‏ قال‏:‏ نعم من كلّ المال قد آتاني اللّه، فقال‏:‏ إذا كان لك مالٌ فلير عليك» وروى البيهقيّ عن أبي سعيدٍ الخدريّ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إنّ اللّه جميلٌ يحبّ الجمال، ويحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده»‏.‏

إظهار المرء غير ما يبطن في العقائد

7 - إنّ إظهار المرء غير ما يبطن من أصول الإيمان، كالإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، لا يخرج عن حالين‏:‏ فهو إمّا أن يظهر الإيمان بها ويبطن الكفر، أو يظهر الكفر بها ويبطن الإيمان‏.‏

أ - فإن أظهر الإيمان بها وأبطن الكفر فهو نفاقٌ مخلّدٌ لصاحبه في النّار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه، واللّه يعلم إنّك لرسوله، واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون‏}‏‏.‏ وسيأتي تفصيل ذلك تحت مصطلح ‏"‏ نفاقٌ ‏"‏ إن شاء اللّه تعالى‏.‏

ب - أمّا إن أظهر الكفر بهذه الأصول وأبطن الإيمان فإنّ ذلك لا يخلو من حالين‏:‏

الحال الأوّل‏:‏ أن يظهر ما أظهره طواعيةً، فيحكم عليه بالظّاهر من حاله، لأنّ الأحكام الفقهيّة تجري على الظّاهر‏.‏

الحال الثّاني‏:‏ أن يظهر ما أظهره مكرهاً وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، وعندئذٍ تبقى أحكام الإيمان جاريةً عليه‏.‏ كما فصّل الفقهاء ذلك في بحثهم في الرّدّة وفي الإكراه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كفر باللّه من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من اللّه، ولهم عذابٌ عظيمٌ‏}‏‏.‏

إظهار المتعاقدين خلاف قصدهما

8 - إذا أظهر العاقدان عقداً في الأموال، وهما لا يريدانه، أو ثمناً لمبيعٍ وهما يريدان غيره، أو أقرّ أحدٌ لآخر بحقٍّ وقد اتّفقا سرّاً على بطلان ذلك الإقرار الظّاهر، فقد قال بعض الفقهاء، كالحنابلة وأبي يوسف ومحمّد بن الحسن‏:‏ الظّاهر باطلٌ‏.‏ وقال بعضهم كأبي حنيفة والشّافعيّ‏:‏ الظّاهر صحيح، وقد فصّل ذلك الفقهاء في كتاب البيوع عند كلامهم على بيع التّلجئة، وسمّى المعاصرون هذا العقد الظّاهر بالعقد الصّوريّ‏.‏

إظهار خلاف قصد الشّارع بالحيلة

9 - اتّفق الفقهاء على عدم حلّ كلّ تصرّفٍ مهما كان ظاهره، إذا كان القصد منه إبطال حقّ الغير أو إدخال شبهةٍ فيه، أو تمويه باطلٍ‏.‏

أمّا ما عدا ذلك من التّصرّفات الظّاهرة الّتي تهدف إلى غير ما قصده الشّارع منها، فقد اختلف في جوازها، فرأى بعض الفقهاء حلّها، ورأى آخرون حرمتها، ونجد ذلك مفصّلاً في كتاب الحظر والإباحة عند الحنفيّة، وفي ثنايا الأبحاث عند غيرهم، وسيأتي ذلك مفصّلاً إن شاء اللّه في مصطلح ‏(‏حيلةٌ‏)‏‏.‏

ما يشرع فيه الإظهار

10 - من ذلك إظهار سبب الجرح للشّاهد، لأنّ الجرح لا يقبل إلاّ مفسّراً، وهذه مسألةٌ اجتهاديّةٌ، كما فصّل الفقهاء ذلك في كتاب القضاء‏.‏

ومن ذلك إظهار إقامة الحدود ليتحقّق فيها الرّدع والمنع، وعملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين‏}‏‏.‏

ومن ذلك إظهار الاستثناء والقيود والتّعليقات، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإقرار والأيمان‏.‏

ومن ذلك إظهار طلب الشّفعة بالإشهاد عليه، ونحوه ممّا يستوجب الإشهاد ‏(‏ر‏:‏ إشهادٌ‏)‏‏.‏ ومن ذلك إظهار الحكم بالحجر على شخصٍ معيّنٍ ليتحاشى النّاس التّعامل معه، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب القضاء، وفي كتاب الحجر‏.‏

ومن ذلك إظهار المؤمن الفقير الاستغناء، لقوله تعالى في وصف المؤمنين‏:‏ ‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف‏}‏، وإظهار المتصدّق الصّدقة إن كان ممّن يقتدى به، أو كان في إظهارها تشجيعاً للغير على الصّدقة ونحوها من عمل الخير‏.‏ كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الصّدقات، وكما هو مذكورٌ في كتب الآداب الشّرعيّة‏.‏

ومن ذلك إظهار البهجة والسّرور في المواسم والأعياد، والختان، والأعراس، وولادة مولودٍ، وإظهار البشر عند لقاء الضّيف، ولقاء الإخوان، وإظهار الأدب عند زيارة قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك في كتب الآداب الشّرعيّة، وإظهار التّذلّل عند الخروج إلى الاستسقاء، كما ذكر الفقهاء ذلك في باب صلاة الاستسقاء، وإظهار المجاهد قوّته وبأسه للعدوّ، كتبختره بين الصّفّين ونحو ذلك، كما هو مبيّنٌ في كتاب الجهاد من كتب الفقه‏.‏ وغير ذلك‏.‏

ما يجوز إظهاره

11 - من ذلك إظهار الحزن على الميّت بالبكاء بدون صوتٍ، وبالإحداد مدّة ثلاثة أيّامٍ إن لم يكن الميّت زوجاً، فإن كان الميّت زوجاً فالإحداد واجبٌ على الزّوجة كما تقدّم‏.‏

ما لا يجوز إظهاره

12 - من ذلك إظهار المنكرات كلّها، وإظهار العورة، ولا يجوز لأهل الذّمّة إظهار شيءٍ من صلبانهم ونواقيسهم وخمرهم كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الجزية‏.‏ ولا يجوز إظهار ما يجب إخفاؤه ممّا يكون بين الزّوجين كما ذكر ذلك الفقهاء في باب المعاشرة‏.‏ ولا يجوز إظهار خطبة المعتدّة ما دامت في عدّتها كما ذكر ذلك الفقهاء في باب العدّة‏.‏

إعادةٌ

التعريف

1 - الإعادة تطلق في اللّغة على‏:‏ إرجاع الشّيء إلى حاله الأوّل، كما تطلق على فعل الشّيء مرّةً ثانيةً، فمن أسماء اللّه تعالى ‏"‏ المعيد ‏"‏ - أي الّذي يعيد الخلق بعد الفناء، وقوله تعالى ‏{‏كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده‏}‏ بهذا المعنى أيضاً‏.‏

والفقهاء غالباً ما يطلقون على إرجاع الشّيء إلى مكانه الأوّل لفظ ‏(‏الرّدّ‏)‏ فيقولون‏:‏ ردّ الشّيء المسروق، وردّ المغصوب، وقد يقولون أيضاً‏:‏ إعادة المسروق‏.‏

أمّا الإعادة بالمعنى الثّاني - وهو فعل الشّيء ثانيةً - فقد عرّفها الغزاليّ من الشّافعيّة‏:‏ بأنّها ‏"‏ ما فعل في وقت الأداء ثانياً لخللٍ في الأوّل ‏"‏‏.‏

وتعريف الحنفيّة كما ذكر ابن عابدين ‏"‏ الإعادة‏:‏ فعل مثل الواجب في وقته لخللٍ غير الفساد ‏"‏‏.‏ أمّا الحنابلة فهي عندهم‏:‏ فعل الشّيء مرّةً أخرى‏.‏

وقد عرّفها القرافيّ من المالكيّة بأنّها‏:‏ إيقاع العبادة في وقتها بعد تقدّم إيقاعها على خللٍ في الإجزاء، كمن صلّى بدون ركنٍ، أو في الكمال كمن صلّى منفرداً‏.‏

ولعلّ الأحسن من هذا ما عرّفها به بعضهم حيث قال‏:‏ الإعادة فعل مثل الواجب في وقته لعذرٍ ليشمل نحو إعادة من صلّى منفرداً صلاته مع الجماعة‏.‏ والكلام في هذا البحث ملحوظٌ فيه التعريف الأعمّ للإعادة وهو تعريف الحنابلة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّكرار

2 - الفقهاء يستعملون كلمة ‏"‏ إعادةٌ ‏"‏ في إعادة التّصرّف مرّةً واحدةً، ويستعملون كلمة ‏"‏ تكرارٌ ‏"‏ عندما تكون الإعادة مراراً‏.‏

ب - القضاء

3 - المأمور به إمّا أن يكون لأدائه وقتٌ محدّدٌ، كالصّلاة والحجّ ونحو ذلك، وإمّا ألاّ يكون له وقتٌ محدّدٌ، فالقضاء هو فعل المأمور به بعد خروج وقته المحدّد، أمّا الإعادة‏:‏ فهي فعل المأمور به ثانيةً في وقته إن كان له وقتٌ محدّدٌ، أو في أيّ وقتٍ كان إن لم يكن له وقتٌ محدّدٌ‏.‏

ج - الاستئناف

4 - الاستئناف لا يستعمل إلاّ في إعادة العمل أو التّصرّف من أوّله، كاستئناف الوضوء، أمّا الإعادة فإنّها تستعمل في إعادة التّصرّف من أوّله أو إعادة جزءٍ من أجزائه، كإعادة غسل عضوٍ من أعضاء الوضوء‏.‏

الحكم التّكليفيّ

5 - الإعادة إمّا أن تكون لخللٍ في الفعل الأوّل، أو لغير خللٍ فيه‏:‏

أ - فإن كانت لخللٍ في الفعل الأوّل‏:‏ فإنّ حكمها يختلف باختلاف هذا الخلل‏.‏ فإن كان الخلل مفسداً للتّصرّف، وكان التّصرّف واجباً وجبت إعادة هذا التّصرّف‏.‏ كما إذا توضّأ وصلّى ثمّ علم أنّ الماء نجسٌ أعاد الوضوء والصّلاة‏.‏

أمّا إن كان التّصرّف غير واجبٍ، وكان الخلل يمنع انعقاده أصلاً، كفقد شرطٍ من شروط الانعقاد، فلا يسمّى فعله مرّةً أخرى ‏(‏إعادةٌ‏)‏ لأنّه لم يوجد في الاعتبار الشّرعيّ‏.‏

أمّا إن كان الفعل غير واجبٍ، وكان الشّروع فيه صحيحاً، ثمّ طرأ عليه الخلل فأفسده، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادته، بناءً على اختلافهم في اعتبار الشّروع ملزماً أو غير ملزمٍ‏.‏ فمن قال‏:‏ إنّ الشّروع ملزمٌ - كالحنفيّة والمالكيّة - فقد أوجب الإعادة، ومن قال‏:‏ إنّ الشّروع غير ملزمٍ - كالشّافعيّة والحنابلة - لم يوجب الإعادة، كمن شرع في الصّلاة ثمّ ترك إحدى السّجدتين، أو شرع في الصّيام ثمّ أفطر لعذرٍ أو لغير عذرٍ، فقال الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ يعيد، وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا إعادة عليه‏.‏

ومن استحبّ الإعادة منهم استحبّها للخروج من خلاف العلماء‏.‏ وإن كان الخلل غير مفسدٍ للفعل، وكان هذا الخلل يوجب الكراهة التّحريميّة، فإعادة التّصرّف واجبةٌ، وإن كان يوجب الكراهة التّنزيهيّة فإعادة التّصرّف مستحبّةٌ‏.‏ فمن ترك الموالاة أو التّرتيب في الوضوء، فالسّنّة أن يعيد عند من يقول‏:‏ إنّهما سنّةٌ‏.‏

ب - وإن كانت الإعادة لغير خللٍ، فهي لا تخلو من أن تكون لسببٍ مشروعٍ أو غير مشروعٍ‏.‏ فإن كانت لسببٍ مشروعٍ كتحصيل الثّواب كانت مستحبّةً، إن كانت الإعادة في ذلك مشروعةً، كإعادة الوضوء الّذي تعبّد به لصلاةٍ يريد أداءها وإعادة الصّلاة الّتي صلاّها منفرداً بجماعةٍ‏.‏

وكما لو صلّى جماعةً في بيته ثمّ خرج إلى أحد المساجد الثّلاثة ‏(‏المسجد الحرام، ومسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى‏)‏ فوجد النّاس يصلّونها جماعةً فأعادها معهم‏.‏ أمّا إن صلاّها بجماعةٍ، ثمّ رأى جماعةً أخرى يصلّونها في غير المساجد الثّلاثة، ففي إعادتها معهم خلافٌ بين العلماء‏.‏

أمّا إن كانت لسببٍ غير مشروعٍ فتكره الإعادة، كالأذان والإقامة فإنّهما لا يعادان بإعادة الصّلاة عند الحنفيّة وبعض المالكيّة وبعض الشّافعيّة‏.‏

أسباب الإعادة

من أسباب الإعادة ما يلي‏:‏

أ - وقوع الفعل غير صحيحٍ لعدم توفّر شروط صحّته‏:‏

6 - كمن توضّأ وترك جزءاً يجب غسله من أعضاء الوضوء‏.‏

ومن توضّأ أو اغتسل بغير نيّةٍ عند من يشترط النّيّة لهما‏.‏

ومن رأوا أسودةً فظنّوها عدوّاً، فصلّوا صلاة الخوف، ثمّ تبيّن أنّها غير عدوٍّ‏.‏

ب - الشّكّ في وقوع الفعل ‏:‏

7 - كمن نسي صلاةً من خمس صلواتٍ، ولا يدري ما هي، فإنّه يعيد الصّلوات الخمس احتياطاً، لأنّ الشّكّ قد طرأ على أداء كلّ واحدةٍ منها‏.‏

ج - الإبطال بعد الوقوع‏:‏

8 - كإعادة ما أبطلته الرّدّة من العبادات ما دام سببها - أي سبب العبادة - باقياً عند المالكيّة والحنفيّة، وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ الرّدّة لا تبطل الأعمال أبداً إلاّ إذا اتّصلت بالموت‏.‏

وعلى هذا فإنّ من صلّى الظّهر، ثمّ ارتدّ، ثمّ أسلم قبل العصر، وجب عليه إعادة الظّهر لأنّ سببه - وهو الوقت - ما زال باقياً، ومن حجّ ثمّ ارتدّ، ثمّ أسلم في العام نفسه، أو بعد أعوامٍ وجب عليه إعادة الحجّ، لأنّ سببه باقٍ وهو ‏"‏ البيت ‏"‏‏.‏

د - زوال المانع ‏:‏

9 - كإعادة الصّلاة بالوضوء لمن تيمّم - لوجود عدوٍّ يحول بينه وبين الماء - وجوباً عند الحنفيّة‏.‏ وكإعادة المتيمّم الصّلاة استحباباً إذا وجد الماء في الوقت عند الحنابلة‏.‏ وانظر ‏(‏التّيمّم‏)‏‏.‏

وإذا كان المانع من أمرٍ ليس له بدلٌ، كمن كان على بدنه نجاسةٌ، وليس عنده ما يزيلها به، أو كان في ثوبه نجاسةٌ وليس عنده غيره، ولا ما يزيلها به، فإنّه يصلّي فيه ولا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره عند الحنفيّة، وقال غيرهم يعيد مطلقاً إذا زال المانع كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة عند كلامهم على شروط الصّلاة‏.‏

هـ - الافتيات على صاحب الحقّ ‏:‏

10 - إذا كان لمسجدٍ أهلٌ معلومون، فصلّى فيه غرباء بأذانٍ وإقامةٍ، فلا يكره لأهله إعادة الأذان، وإن صلّى فيه أهله بأذانٍ وإقامةٍ يكره لغير أهله إعادة الأذان فيه، وإذا أذّن غير المؤذّن الرّاتب ثمّ حضر المؤذّن الرّاتب فله إعادة الأذان‏.‏

سقوط الواجب

11 - إذا أعيد عملٌ لخللٍ غير مفسدٍ، فهل يسقط ذلك الواجب بالفعل الأوّل أم بالفعل الثّاني ‏؟‏‏.‏ من الفقهاء من قال‏:‏ إنّ الواجب يسقط بالفعل الثّاني، لأنّه الفعل الكامل الخالي من الخلل‏.‏ وهذا قول الشّعبيّ وسعيد بن المسيّب وعطاءٍ ومذهب الحنفيّة، كما قال ابن عابدين‏.‏ واستدلّوا بحديث يزيد بن الأسود مرفوعاً‏:‏ «إذا جئت إلى الصّلاة فوجدت النّاس فصلّ معهم، وإن كنت قد صلّيت تكن لك نافلةً وهذه مكتوبةٌ»‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ إنّ الواجب يسقط بالفعل الأوّل لأنّه وقع صحيحاً غير باطلٍ، ولكنّ فيه شيئاً من الخلل، والإعادة شرعت لجبر هذا الخلل فيه‏.‏ وهذا مرويٌّ عن عليٍّ، وقول الثّوريّ وإسحاق والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ واستدلّوا بروايةٍ أخرى للحديث السّابق فيها‏:‏ «إذا صلّيتما في رحالكما، ثمّ أتيتما مسجد جماعةٍ، فصلّيا معهم، فإنّها لكم نافلةٌ»‏.‏

أمّا النّيّة في الإعادة‏:‏ فقد قال ابن عابدين‏:‏ ينوي بالفعل الثّاني الفرض - إن كان المعاد فرضاً لأنّ ما فعله أوّلاً هو الفرض، فإعادته‏:‏ فعله ثانيةً على الوجه نفسه‏.‏

أمّا على القول بأنّ الفرض يسقط بالفعل الثّاني فظاهرٌ‏.‏

وأمّا على القول بأنّ الفرض يسقط بالفعل الأوّل، فإنّ المقصود من تكرار الفعل ثانيةً هو جبران نقصان الفعل الأوّل، فالأوّل فرضٌ ناقصٌ، والثّاني فرضٌ كاملٌ، مثل الفعل الأوّل ذاتاً مع وصف الكمال، ولو كان الفعل الثّاني نفلاً للزم أن تجب القراءة في الرّكعات الأربع للصّلاة المعادة، وألاّ تشرع الجماعة فيها، ولم يذكر الفقهاء شيئاً من هذا‏.‏

ولا يلزم من كون الصّلاة الثّانية فرضاً عدم سقوط الفرض بالأولى، لأنّ المراد أنّها تكون فرضاً بعد الوقوع، أمّا قبله فالفرض هو الأولى، وحاصله توقّف الحكم بفرضيّة الأولى على عدم الإعادة، وله نظائر‏:‏ كسلام من عليه سجود السّهو يخرجه خروجاً موقوفاً، وكفساد الصّلاة الوقتيّة مع تذكّر صلاةٍ فائتةٍ‏.‏

إعارةٌ

التعريف

1 - الإعارة في اللّغة‏:‏ من التّعاور، وهو التّداول والتّناوب مع الرّدّ‏.‏ والإعارة مصدر أعار، والاسم منه العاريّة، وتطلق على الفعل، وعلى الشّيء المعار، والاستعارة طلب الإعارة‏.‏ وفي الاصطلاح عرّفها الفقهاء بتعاريف متقاربةٍ‏.‏

فقال الحنفيّة‏:‏ إنّها تمليك المنافع مجّاناً‏.‏

وعرّفها المالكيّة‏:‏ بأنّها تمليك منفعةٍ مؤقّتةٍ بلا عوضٍ‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّها شرعاً إباحة الانتفاع بالشّيء مع بقاء عينه‏.‏

وعرّفها الحنابلة‏:‏ بأنّها إباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العمرى ‏:‏

2 - العمرى‏:‏ تمليك المنفعة طول حياة المستعير بغير عوضٍ، فهي أخصّ‏.‏

ب - الإجارة ‏:‏

3 - الإجارة‏:‏ تمليك منفعةٍ بعوضٍ، فتجتمع مع الإعارة في تمليك المنفعة عند القائلين بالتّمليك، وتنفرد الإجارة بأنّها بعوضٍ، والإعارة بأنّها بغير عوضٍ‏.‏

ج - الانتفاع ‏:‏

4 - الانتفاع‏:‏ هو حقّ المنتفع في استعمال العين واستغلالها، وليس له أن يؤاجره، ولا أن يعيره لغيره والمنفعة أعمّ من الانتفاع، لأنّ له فيها الانتفاع بنفسه وبغيره، كأن يعيره أو يؤاجره‏.‏

دليل مشروعيّتها

5 - الأصل في مشروعيّة الإعارة الكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول‏:‏

أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمنعون الماعون‏}‏ فقد روي عن ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ أنّهما قالا‏:‏ الماعون العواريّ‏.‏ وفسّر ابن مسعودٍ العواريّ بأنّها القدر والميزان والدّلو‏.‏ وأمّا السّنّة‏:‏ فما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في خطبة حجّة الوداع‏:‏ «والعاريّة مؤدّاةٌ‏.‏ والدّين مقضيٌّ‏.‏ والمنحة مردودةٌ‏.‏ والزّعيم غارمٌ»‏.‏ وروى «صفوان بن أميّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعاً يوم حنينٍ، فقال‏:‏ أغصباً يا محمّد ‏؟‏ قال بل عاريّةٌ مضمونةٌ»‏.‏

وأجمع المسلمون على جواز العاريّة‏.‏ ومن المعقول‏:‏ أنّه لمّا جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع، ولذلك صحّت الوصيّة بالأعيان والمنافع جميعاً‏.‏

حكمها التّكليفيّ

6 - اختلف الفقهاء في حكم الإعارة بعد إجماعهم على جوازها، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حكمها في الأصل النّدب، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «كلّ معروفٍ صدقةٌ» وليست واجبةً لأنّها نوعٌ من الإحسان لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أدّيت زكاة مالكٍ فقد قضيت ما عليك»، وقوله‏:‏ «ليس في المال حقٌّ سوى الزّكاة»‏.‏

وقيل‏:‏ هي واجبةٌ‏.‏ واستدلّ القائلون بالوجوب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويلٌ للمصلّين الّذين هم عن صلاتهم ساهون الّذين هم يراءون ويمنعون الماعون‏}‏ نقل عن كثيرٍ من الصّحابة أنّها عاريّة القدر والدّلو ونحوهما‏.‏

قال صاحب الشّرح الصّغير‏:‏ وقد يعرض لها الوجوب، كغنيٍّ عنها، فيجب إعارة كلّ ما فيه إحياء مهجةٍ محترمةٍ لا أجرة لمثله، وكذا إعارة سكّينٍ لذبح مأكولٍ يخشى موته، وهذا المنقول عن المالكيّة لا تأباه قواعد المذاهب الأخرى‏.‏

وقد تكون حراماً كإعطائها لمن تعينه على معصيةٍ‏.‏

وقد تكون مكروهةً كإعطائها لمن تعينه على فعلٍ مكروهٍ‏.‏

أركان الإعارة

7 - قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إنّ أركان العاريّة أربعةٌ هي‏:‏ المعير، والمستعير، والمعار، والصّيغة، وذهب الحنفيّة - كما في سائر العقود - إلى أنّ ركنها هو الصّيغة فقط، وما عداه يسمّى أطراف العقد، كما يسمّى المعار محلاًّ‏.‏

أ - المعير ‏:‏ ويشترط فيه أن يكون مالكاً للتّصرّف في الشّيء المعار، مختاراً يصحّ تبرّعه، فلا تصحّ إعارة مكرهٍ، ولا محجورٍ عليه، ولا إعارة من يملك الانتفاع دون المنفعة كسكّان مدرسةٍ موقوفةٍ‏.‏ وقد صرّح الحنفيّة بأنّ الصّبيّ المأذون إذا أعار ماله صحّت الإعارة‏.‏

ب - المستعير ‏:‏ وهو طالب الإعارة، ويشترط فيه أن يكون أهلاً للتّبرّع عليه بالشّيء المعار، وأن يكون معيّناً، فلو فرش بساطه لمن يجلس عليه لم يكن عاريّةً، بل مجرّد إباحةٍ‏.‏

ج - المستعار ‏(‏المحلّ‏)‏‏:‏ هو الّذي يمنحه المعير للمستعير للانتفاع به‏.‏ ويشترط فيه أن يكون منتفعاً به انتفاعاً مباحاً مقصوداً مع بقاء عينه‏.‏ أمّا ما تذهب عينه بالانتفاع به كالطّعام فليس إعارةً، كما لا تحلّ إذا كانت الإعارة لانتفاعٍ محرّمٍ، كإعارة السّلاح لأهل البغي أو الفساد، ولا يعار ما لا نفع فيه‏.‏

د - الصّيغة ‏:‏ وهي كلّ ما يدلّ على الإعارة من لفظٍ أو إشارةٍ أو فعلٍ، وهذا عند المالكيّة والحنابلة‏.‏ والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه لا بدّ من اللّفظ للقادر عليه‏.‏ أو الكتابة مع النّيّة، وفي غير الصّحيح أنّها تجوز بالفعل‏.‏

وعند الحنفيّة أنّ ركن الإعارة الإيجاب بالقول من المعير، ولا يشترط القول في القبول، خلافاً لزفر فإنّه ركنٌ عنده، وهو القياس، وتنعقد عندهم بكلّ لفظٍ يدلّ عليها ولو مجازاً‏.‏

ما تجوز إعارته

8 - تجوز إعارة كلّ عينٍ ينتفع بها منفعةً مباحةً مع بقائها، كالدّور والعقار والدّوابّ والثّياب والحليّ للّبس، والفحل للضّراب، والكلب للصّيد، وغير ذلك، لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعار أدرعاً من صفوان»‏.‏ وذكر إعارة الدّلو والفحل‏.‏ وذكر ابن مسعودٍ عاريّة القدر والميزان، فيثبت الحكم في هذه الأشياء‏.‏ وما عداها مقيسٌ عليها إذا كان في معناها‏.‏ ولأنّ ما جاز للمالك استيفاؤه من المنافع ملك إعارته إذا لم يمنع منه مانعٌ، ولأنّها أعيانٌ تجوز إجارتها فجازت إعارتها‏.‏ ويجوز استعارة الدّراهم والدّنانير ليزن بها أو للتّزيّن، فإن استعارها لينفقها فهذا قرضٌ، وقيل‏:‏ ليس هذا جائزاً ولا تكون العاريّة في الدّنانير‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّه تجوز أيضاً إعارة المشاع سواءٌ أكان قابلاً للقسمة أم لا‏.‏ وسواءٌ أكان الجزء المشاع مع شريكٍ أم مع أجنبيٍّ، وسواءٌ أكانت العاريّة من واحدٍ أم من أكثر، لأنّ جهالة المنفعة لا تفسد الإعارة‏.‏ ولم نعثر على حكم ذلك عند غير الحنفيّة‏.‏

طبيعتها من حيث اللّزوم وعدمه

9 - إذا تمّت الإعارة بتحقّق أركانها وشروطها، فهل تلزم بحيث لا يصحّ الرّجوع فيها من المعير أو لا تلزم ‏؟‏

ذهب جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ إلى أنّ الأصل أنّ للمعير أن يرجع في إعارته متى شاء، سواءٌ أكانت الإعارة مطلقةً أم مقيّدةً بعملٍ أو وقتٍ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا‏:‏ إن أعاره شيئاً لينتفع به انتفاعاً يلزم من الرّجوع في العاريّة في أثنائه ضررٌ بالمستعير لم يجز له الرّجوع، لأنّ الرّجوع يضرّ بالمستعير، فلم يجز له الإضرار به، مثل أن يعيره لوحاً يرقّع به سفينته، فرقّعها به ولجّج بها في البحر، لم يجز له الرّجوع ما دامت في البحر، وله الرّجوع قبل دخولها في البحر وبعد الخروج منه، لعدم الضّرر فيه‏.‏

وقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إذا رجع المعير في إعارته بطلت، وتبقى العين في يد المستعير بأجر المثل إذا حصل ضررٌ، كمن استعار جدار غيره لوضع جذوعه فوضعها، ثمّ باع المعير الجدار، ليس للمشتري رفعها، وقيل‏:‏ له رفعها إلاّ إذا شرط البائع وقت البيع بقاء الجذوع‏.‏ وقد ارتضى القول بالرّفع صاحب الخلاصة والبزّازيّة وغيرهما، واعتمده في تنوير البصائر، وقالوا أيضاً‏:‏ إنّ للوارث أن يأمر الجار برفع الجذوع على أيّ حالٍ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن أعار المعير أرضاً للبناء أو الغراس إعارةً مطلقةً، ولم يحصل غرسٌ ولا بناءٌ فللمعير الرّجوع في الإعارة ولا شيء عليه على المعتمد، وعلى غير المعتمد يلزمه بقاء الأرض في يد المستعير المدّة المعتادة، وإن رجع المعير بعد حصول الغراس والبناء فله ذلك أيضاً، ويترتّب عليه إخراج المستعير من الأرض ولو كانت الإعارة قريبةً، لتفريط المستعير بتركه اشتراط الأجل، لكن ماذا يلزم المعير حينئذٍ ‏؟‏ في قولٍ أنّه يلزمه دفع ما أنفق المستعير من ثمن الأعيان الّتي بنى بها أو غرسها من أجرة النّقلة‏.‏ وفي قولٍ إنّ عليه دفع القيمة إن طال زمن البناء والغرس لتغيّر الغرس والبناء بطول الزّمان‏.‏ وفي قولٍ إنّ محلّ دفع القيمة إذا كانت الأعيان الّتي بنى بها المستعير هي في ملكه ولم يشترها أو كانت من المباحات‏.‏ ومحلّ دفع ما أنفق إن اشتراه للعمارة‏.‏ وكلّ ذلك في الإعارة الصّحيحة، فإن وقعت فاسدةً فعلى المستعير أجرة المثل، ويدفع له المعير في بنائه وغرسه قيمته‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الإعارة إن قيّدت بعملٍ أو أجلٍ لزمت، ولا يجوز الرّجوع قبل انتهاء العمل أو الأجل أيّاً كان المستعار، أرضاً لزراعةٍ أو لسكنى أو لوضع شيءٍ بها، أو كان حيواناً لركوبٍ أو حملٍ أو غير ذلك، أو عرضاً‏.‏

وإن لم تقيّد بعملٍ أو أجلٍ بأن أطلقت فلا تلزم، ولربّها أخذها متى شاء، ولا يلزم قدر ما تقصد الإعارة لمثله عادةً على المعتمد‏.‏ وفي غير المعتمد أنّه يلزم بقاؤه في يد المستعير لما يعار لمثله عادةً‏.‏ وقيل‏:‏ إنّه تلزم إذا أعيرت الأرض للبناء والغرس وحصلا‏.‏

ودليل جواز الرّجوع إلاّ فيما استثني أنّ الإعارة مبرّةٌ من المعير، وارتفاقٌ من المستعير، فالإلزام غير لائقٍ بها‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا أذن أحدٌ لبعض ورثته ببناء محلٍّ في داره، ثمّ مات، فلباقي الورثة مطالبته برفعه إن لم تقع القسمة، أو لم يخرج في قسمه‏.‏ وإذا استعار أحدٌ داراً، فبنى فيها بلا إذن المالك‏.‏ أو قال له صاحب الدّار‏:‏ ابن لنفسك، ثمّ باع المعير الدّار بحقوقها يؤمر الباني بهدم بنائه‏.‏

وذكر الشّافعيّة والحنابلة أنّه لو أعار إنسانٌ مدفناً لدفن ميّتٍ، فلا يجوز له الرّجوع حتّى يندرس أثر المدفون بحيث لا يبقى منه شيءٌ، فيرجع حينئذٍ وتنتهي العاريّة‏.‏

وحكم الورثة حكم مورّثهم في عدم الرّجوع، ولا أجرة لذلك، محافظةً على كرامة الميّت، ولقضاء العرف بعدم الأجرة، والميّت لا مال له‏.‏ وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى هذا الحكم‏.‏

آثار الرّجوع

10 - قال الحنفيّة‏:‏ إنّ المعير إذا رجع في إعارته بطلت الإعارة، ويبقى المعار في يد المستعير بأجر المثل كما مرّ إن حصل ضررٌ للمستعير بأخذ المعار منه‏.‏ وأوردوا الأحكام الخاصّة بكلّ نوعٍ ممّا يعار‏.‏ فقالوا في إعارة الأرض للبناء والغرس‏:‏ لو أعار أرضاً إعارةً مطلقةً للبناء والغرس صحّ للعلم بالمنفعة، وله أن يرجع متى شاء، ويكلّف المعير المستعير قلع الزّرع والبناء إلاّ إذا كان فيه مضرّةٌ بالأرض، فيتركان بالقيمة مقلوعين، لئلاّ تتلف أرضه، أو يأخذ المستعير غراسه وبناءه بلا تضمين المعير‏.‏ وذكر الحاكم الشّهيد أنّ للمستعير أن يضمّن المعير قيمتهما قائمين في الحال ويكونان له وأن يرفعها، إلاّ إذا كان الرّفع مضرّاً بالأرض فحينئذٍ يكون الخيار للمعير‏.‏ وفيه رمزٌ إلى أنّه لا ضمان في العاريّة المطلقة‏.‏ وعنه أنّ عليه القيمة‏.‏ وأشار أيضاً إلى أنّه لا ضمان في المؤقّتة بعد انقضاء الوقت فيقلع المعير البناء والغرس إلاّ أن يضرّ القلع بالأرض، فحينئذٍ يضمن قيمتهما مقلوعين لا قائمين‏.‏

وإن وقّت المعير الإعارة فرجع عنها قبل الوقت كلّف المستعير قلعها، وضمن المعير له ما نقص البناء والغرس، لكن هل يضمنهما قائمين أو مقلوعين ‏؟‏‏.‏

ما مشى عليه الكنز والهداية أنّه يضمنهما مقلوعين، وذكر في البحر عن المحيط ضمان القيمة قائماً إلاّ أن يقلعه المستعير ولا ضرر، فإن ضمن فضمان القيمة مقلوعاً‏.‏ وعبارة المجمع‏:‏ وألزمناه الضّمان فقيل‏:‏ ما نقصهما القلع، وقيل‏:‏ قيمتهما ويملكهما‏.‏ وقيل‏:‏ إن ضرّ يخيّر المالك بين ضمان ما نقص، وضمان القيمة، ومثله في درر البحار والمواهب والملتقى وكلّهم قدّموا الأوّل، وبعضهم جزم به وعبّر عن غيره بقيل فلذا اختاره المصنّف ابن عابدين وهو رواية القدوريّ، والثّاني رواية الحاكم الشّهيد‏.‏

وقال القاضي زكريّا الأنصاريّ في المنهج‏:‏ إذا أعار لبناءٍ أو غرسٍ، ولو إلى مدّةٍ، ثمّ رجع بعد أن بنى المستعير أو غرس، فإن شرط عليه قلعه لزمه، وإن لم يشرط فإن اختار المستعير القلع قلع مجّاناً ولزمه تسوية الأرض، لأنّه قلع باختياره، وإن لم يختر قلعه خيّر المعير بين تملّكه بقيمته مستحقّ القلع حين التّملّك، وبين قلعه مع ضمان نقصه، وهو قدر التّفاوت بين قيمته قائماً وقيمته مقلوعاً وبين تبقيته بأجرةٍ‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن أعاره أرضاً للغراس والبناء، وشرط عليه القلع في وقتٍ أو عند رجوعه، ثمّ رجع لزم المستعير القلع، وإن لم يشترط لم يلزمه إلاّ أن يضمن له المعير النّقص، فإن أبى القلع في الحال الّتي لا يجبر عليه فيها، فبذل له المعير قيمة الغراس والبناء ليملكه أجبر المستعير عليه، فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النّقص، وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر لم يقلع، وإن أبيا البيع ترك بحاله وللمعير التّصرّف بأرضه على وجهٍ لا يضرّ بالشّجر‏.‏

إعارة الأرض للزّرع

11 - للفقهاء اختلافٌ وتفصيلٌ في الحكم الّذي يترتّب على الرّجوع في إعارة الأرض للزّراعة قبل تمام الزّرع‏.‏

فمذهب الحنفيّة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، وهو الوجه المقدّم عند الحنابلة، وعليه المذهب، وهو القول غير المعتمد عند المالكيّة أنّ معير الأرض للزّراعة إذا رجع قبل تمام الزّرع وحصاده فليس له أخذها من المستعير، بل تبقى في يده بأجر المثل‏.‏ وهذا الحكم عند الحنفيّة استحسانٌ سواءٌ أكانت الإعارة مطلقةً أم مقيّدةً‏.‏

وحجّتهم في ذلك‏:‏ أنّه يمكن الجمع بين مصلحة المعير والمستعير، بأن يأخذ المعير أجر مثل الأرض من تاريخ رجوعه حتّى حصاد الزّرع، فينتفي ضرره بذلك، ويبقى الزّرع في الأرض حتّى يحصد‏.‏ وفي ذلك مصلحة المستعير، فلا يضرّ بالقلع قبل الحصاد، وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة في الإعارة المطلقة إن نقص الزّرع بالقلع، لأنّه محترمٌ، وله أمدٌ ينتهي إليه، وتبقى بأجر المثل‏.‏

وللمالكيّة ثلاثة أقوالٍ في الإعارة المطلقة‏:‏

أحدها‏:‏ هذا‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ الأرض تبقى في يد المستعير المدّة الّتي تراد الأرض لمثلها عادةً‏.‏

والثّالث‏:‏ لا تبقى، وهو قول أشهب‏.‏ أمّا المقيّدة بعملٍ أو أجلٍ فلا يرجع قبل انقضاء العمل أو الأجل‏.‏

ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ألاّ أجرة على المستعير، بل تبقى الأرض في يده حتّى الحصاد بلا أجرٍ، لأنّ منفعة الأرض إلى الحصاد‏.‏ والثّالث أنّ للمعير القلع لانقطاع الإباحة‏.‏

ومذهب الحنابلة كمذهب الحنفيّة في عدم جواز الرّجوع، لكنّهم قالوا‏:‏ إن كان الزّرع ممّا يحصد قصيلاً فله الرّجوع في وقت إمكان حصاده، ولم يتعرّض الحنفيّة لهذا النّوع من الزّرع، كالبرسيم والشّعير الأخضر‏.‏

إعارة الدّوابّ وما في معناها

12 - قال الحنفيّة‏:‏ إنّ إعارة الدّوابّ إمّا أن تكون مطلقةً أو مقيّدةً، فإن كانت مطلقةً، بأن أعار دابّته مثلاً ولم يسمّ مكاناً ولا زماناً ولا ركوباً ولا حملاً معيّناً فللمستعير أن يستعملها في أيّ زمانٍ ومكانٍ شاء، وله أن يحمل أو يركب، لأنّ الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه، وقد ملّكه منافع العاريّة مطلقاً فكان له أن يستوفيها على الوجه الّذي ملكها‏.‏ إلاّ أنّه لا يحمل عليها ما يضرّها، ولا يستعملها أكثر ممّا جرى به العرف، حتّى لو فعل فعطبت ضمن، لأنّ العقد وإن خرج مخرج الإطلاق لكنّ المطلق يتقيّد بالعرف والعادة دلالةً، كما يتقيّد نصّاً‏.‏

ولا يملك المستعير تأجير العاريّة، فإن أجّرها وسلّمها إلى المستأجر فهلكت عنده ضمن المستعير أو المستأجر، لكن إذا ضمن المستأجر رجع على المستعير‏.‏

وإذا قيّد المعير الإعارة تقيّدت بما قيّدها به‏.‏ فإن خالف المستعير، وعطبت الدّابّة ضمن بالاتّفاق‏.‏ وإن خالف وسلّمت فهناك اتّجاهان‏:‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يرون أنّ المستعير يضمن أجر ما زاد في المسافة أو الحمل وتقدير ذلك يرجع فيه إلى أهل الخبرة‏.‏ ولم يتعرّض الحنفيّة لهذا الفرع في كتاب الإعارة ولكن تعرّضوا لهذه المسألة في كتاب الإجارة فقالوا‏:‏ ‏(‏إذا زاد على الدّابّة شيئاً غير متّفقٍ عليه وسلّمت يجب عليه المسمّى فقط، وإن كان لا يحلّ له الزّيادة إلاّ برضى المكاري‏)‏‏.‏

ولمّا كان كلٌّ من الإعارة والإجارة فيه تمليك المنفعة وكان أخذ الأجر في الإجارة مسلّماً وفي الإعارة غير مسلّمٍ، لأنّها من باب الإحسان والتّبرّع، فإنّ عدم وجوب أجرٍ في مقابلة الزّيادة يكون في الإعارة من بابٍ أولى‏.‏

فإذا أعار إنساناً دابّةً على أن يركبها المستعير بنفسه فليس له أن يعيرها غيره‏.‏ لأنّ الأصل في المقيّد اعتبار القيد فيه إلاّ إذا تعذّر اعتباره‏.‏ والاعتبار في هذا القيد ممكنٌ، لأنّه مقيّدٌ لتفاوت النّاس في استعمال الدّوابّ، فإن خالف المستعير وأعار الدّابّة فهلكت ضمن‏.‏

تعليقها وإضافتها

13 - جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة - ما عدا الزّركشيّ - وفي قولٍ للحنفيّة أنّه لا يجوز إضافتها، ولا تعليقها، لأنّها عقدٌ غير لازمٍ فله الرّجوع متى شاء‏.‏

وفي قولٍ آخر للحنفيّة جواز إضافتها دون تعليقها‏.‏

وقد ذكر بعض المالكيّة والشّافعيّة فروعاً ظاهرها أنّها تعليقٌ أو إضافةٌ كقولهم‏:‏ أعرني دابّتك اليوم أعيرك دابّتي غداً، والواقع أنّها إجارةٌ لا إعارةٌ‏.‏ ولم نطّلع على تصريحٍ للحنابلة بحكم إضافة الإعارة أو تعليقها‏.‏ وإن كانوا قد صرّحوا بأنّ الأصل في الإعارة عدم لزومها‏.‏

حكم الإعارة وأثرها

14 - مذهب الحنفيّة - عدا الكرخيّ - ومذهب المالكيّة، وهو وجهٌ للحنابلة، وهو المرويّ عن الحسن والنّخعيّ والشّعبيّ وعمر بن عبد العزيز والثّوريّ والأوزاعيّ وابن شبرمة أنّ الإعارة تفيد تمليك المنفعة، والدّليل على ذلك أنّ المعير سلّط المستعير على تحصيل المنافع، وصرفها إلى نفسه على وجهٍ زالت يده عنها، والتّسليط على هذا الوجه يكون تمليكاً لا إباحةً، كما في الأعيان‏.‏

ومذهب الشّافعيّة والحنابلة والكرخيّ من الحنفيّة وهو المرويّ عن ابن عبّاسٍ وأبي هريرة وذهب إليه إسحاق أنّها تفيد إباحة المنفعة، وذلك لجواز العقد من غير أجلٍ، ولو كان تمليك المنفعة لما جاز من غير أجلٍ كالإجارة‏.‏

وكذلك الإعارة تصحّ بلفظ الإباحة، والتّمليك لا ينعقد بلفظ الإباحة‏.‏

وثمرة الخلاف تظهر فيما لو أعار المستعير الشّيء المستعار إلى من يستعمله كاستعماله، فهل تصحّ إعارته أو لا تصحّ ‏؟‏ مذهب المالكيّة والمختار من مذهب الحنفيّة أنّ إعارته صحيحةٌ، حتّى ولو قيّد المعير الإعارة باستعمال المستعير بنفسه، لأنّ التّقييد بما لا يختلف غير مفيدٍ‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة لا يجوز‏.‏

وفي البحر‏:‏ وللمستعير أن يودع، على المفتى به، وهو المختار، وصحّح بعضهم عدمه، ويتفرّع عليه ما لو أرسلها على يد أجنبيٍّ فهلكت ضمن على القول الثّاني لا الأوّل‏.‏ فللمعير أجر المثل‏.‏ ويترتّب على مذهب القائلين بالإباحة، وهم الشّافعيّة والحنابلة والكرخيّ من الحنفيّة، أنّه لو أعار المستعير الشّيء فلمالك العاريّة أجر المثل، ويطالب المستعير الأوّل أو الثّاني أيّهما شاء، لأنّ المستعير الأوّل سلّط غيره على أخذ مال المعير بغير إذنه‏.‏ ولأنّ المستعير الثّاني استوفى المنفعة بغير إذن مالكها‏.‏ فإن ضمّن المالك المستعير الأوّل رجع على المستعير الثّاني، لأنّ الاستيفاء حصل منه فاستقرّ الضّمان عليه‏.‏ وإن ضمّن الثّاني لم يرجع على الأوّل‏.‏ إلاّ أن يكون الثّاني لم يعلم بحقيقة الحال، فيحتمل أن يستقرّ الضّمان على الأوّل، لأنّه غرّ الثّاني ودفع العين إليه على أنّه يستوفي منافعها بدون عوضٍ‏.‏ وإن تلفت العين في يد الثّاني، استقرّ الضّمان عليه بكلّ حالٍ، لأنّه قبضها على أن تكون مضمونةً عليه‏.‏ فإن رجع على الأوّل رجع الأوّل على الثّاني‏.‏ وإن رجع على الثّاني لم يرجع على أحدٍ‏.‏

ضمان الإعارة

15 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ العاريّة إن تلفت بالتّعدّي من المستعير فإنّه يضمنها، لأنّها إن كانت أمانةً كما يقول الحنفيّة‏:‏ فالأمانات تضمن بالتّعدّي‏.‏ ومذهب المالكيّة كذلك فيما لا يغاب عليه، أي لا يمكن إخفاؤه، كالعقار والحيوان، بخلاف ما يمكن إخفاؤه، كالثّياب والحليّ فإنّه يضمنه، إلاّ إذا أقام بيّنةً على أنّه تلف أو ضاع بلا سببٍ منه، وقالوا‏:‏ إنّه لا ضمان في غير ما ذكر‏.‏

وعند الشّافعيّة والحنابلة يضمن المستعير بهلاك الشّيء المعار، ولو كان الهلاك بآفةٍ سماويّةٍ، أو أتلفها هو أو غيره ولو بلا تقصيرٍ‏.‏ وقالوا‏:‏ إن تلفت باستعمالٍ مأذونٍ فيه، كاللّبس والرّكوب المعتاد لم يضمن شيئاً، لحصول التّلف بسببٍ مأذونٍ فيه‏.‏

وحجّة الحنفيّة حديث‏:‏ «ليس على المستعير غير المغلّ ضمانٌ» والمغلّ هو الخائن‏.‏ ولأنّ الضّمان إمّا أن يجب بالعقد أو بالقبض أو بالإذن، وليس هنا شيءٌ من ذلك‏.‏ أمّا العقد فلأنّ اللّفظ الّذي تنعقد به العاريّة لا ينبئ عن التزام الضّمان، لأنّه لتمليك المنافع بغير عوضٍ أو لإباحتها على الاختلاف‏.‏ وما وضع لتمليك المنافع لا يتعرّض فيه للعين حتّى يوجب الضّمان عند هلاكه‏.‏

وأمّا القبض فإنّما يوجب الضّمان إذا وقع بطريق التّعدّي، وما هنا ليس كذلك، لكونه مأذوناً فيه‏.‏ وأمّا الإذن فلأنّ إضافة الضّمان إليه فسادٌ في الوضع، لأنّ إذن المالك في قبض الشّيء ينفي الضّمان فكيف يضاف إليه‏.‏ واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان «بل عاريّةٌ مضمونةٌ» وبقوله صلى الله عليه وسلم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»‏.‏ ولأنّه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفرداً بنفعه من غير استحقاقٍ، ولا إذنٍ في الإتلاف، فكان مضموناً كالغاصب والمأخوذ على وجه العموم‏.‏ واستدلّ المالكيّة في التّفرقة بين ما يمكن إخفاؤه وما لا يمكن بحمل أحاديث الضّمان، على ما يمكن إخفاؤه، والأحاديث الأخرى على ما لا يمكن إخفاؤه‏.‏

ثمّ قال الحنفيّة‏:‏ إنّ الإتلاف يكون حقيقةً، ويكون معنًى‏.‏ فالإتلاف حقيقةً بإتلاف العين، كعطب الدّابّة بتحميلها ما لا يحمله مثلها، أو استعمالها فيما لا يستعمل مثلها فيه، والإتلاف معنًى بالمنع بعد الطّلب، أو بعد انقضاء المدّة، أو بجحود الإعارة أو بترك الحفظ، أو بمخالفة الشّروط في استعمالها، فلو حبس العاريّة بعد انقضاء المدّة أو بعد الطّلب قبل انقضاء المدّة يضمن لأنّها واجبة الرّدّ في هاتين الحالتين، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «العاريّة مؤدّاةٌ» وقوله عليه الصلاة والسلام «على اليد ما أخذت حتّى تردّه»‏.‏ ولأنّ حكم العقد انتهى بانقضاء المدّة أو الطّلب، فصارت العين في يده كالمغصوب‏.‏ والمغصوب مضمون الرّدّ حال قيامه، ومضمون القيمة حال هلاكه‏.‏

ولم ينصّ المالكيّة على المراد بالهلاك عندهم، ولكن يفهم من كلامهم السّابق في إعارة الدّوابّ أنّ المراد به تلف العين‏.‏ قالوا‏:‏ وإن ادّعى المستعير أنّ الهلاك أو الضّياع ليس بسبب تعدّيه أو تفريطه في الحفظ فهو مصدّقٌ في ذلك بيمينه، إلاّ أن تقوم بيّنةٌ أو قرينةٌ على كذبه، وسواءٌ في ذلك ما يغاب عليه وما لا يغاب‏.‏

شرط نفي الضّمان

16 - قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو أحد وجهين عند المالكيّة‏:‏ إنّ شرط نفي الضّمان فيما يجب ضمانه لا يسقطه، وقال أبو حفصٍ العكبريّ من الحنابلة‏:‏ يسقط، وقال أبو الخطّاب‏:‏ أومأ إليه أحمد، وهو قول قتادة والعنبريّ، لأنّه لو أذن في إتلاف العين المعارة لم يجب ضمانها، فكذلك إذا أسقط عنه ضمانها‏.‏ وقيل‏:‏ بل مذهب قتادة والعنبريّ أنّها لا تضمن إلاّ أن يشترط ضمانها، فيجب، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لصفوان «بل عاريّةٌ مضمونةٌ»‏.‏

واستدلّ لعدم سقوط الضّمان بأنّ كلّ عقدٍ اقتضى الضّمان لم يغيّره الشّرط، كالمقبوض ببيعٍ صحيحٍ أو فاسدٍ، وما اقتضى الأمانة فكذلك، كالوديعة والشّركة والمضاربة‏.‏

والوجه الآخر عند المالكيّة أنّه لا يضمن بشرط السّقوط، لأنّه معروفٌ من وجهين‏:‏ العاريّة معروفٌ، وإسقاط الضّمان معروفٌ آخر، ولأنّ المؤمن عند شرطه‏.‏ ونصّ الحنفيّة أنّ شرط الضّمان باطلٌ كشرط عدمه، خلافاً للجوهرة، حيث جزم فيها بصيرورتها مضمونةً بشرط الضّمان‏.‏

وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم - وهو قول أكثر الحنفيّة - إلى أنّه لو أعار عيناً بشرط ضمانها عند تلفها بقدرٍ معيّنٍ فسد الشّرط دون العاريّة‏.‏ قال الأذرعيّ من الشّافعيّة وفيه وقفةٌ‏.‏ ولا يرد هنا مذهب الحنابلة لأنّهم يقولون بالضّمان مطلقاً‏.‏

كيفيّة التّضمين

17 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو مقابل المعتمد عند الشّافعيّة أنّه يجب ضمان العين بمثلها إن كانت مثليّةً، وإلاّ فبقيمتها يوم التّلف‏.‏

والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه إذا وجب الضّمان في العاريّة فإنّها تضمن بقيمتها يوم التّلف، متقوّمةً كانت أو مثليّةً، لأنّ ردّ مثل العين مع استعمال جزءٍ منها متعذّرٌ، فصار بمنزلة فقد المثل، فيرجع للقيمة، ولا تضمن العاريّة بأقصى القيمة، ولا بيوم القبض‏.‏

الاختلاف بين المعير والمستعير

18 - تقدّم أنّ الحنفيّة يقولون‏:‏ إنّ العاريّة من الأمانات فلا تضمن‏.‏ وكذلك المالكيّة فيما لا يخفى‏.‏ وفرّعوا على ذلك أنّها لا تضمن، إلاّ بالتّعدّي، وأنّ الأمين يصدّق فيما يدّعيه بيمينه‏.‏ واعتبار المقبوض عاريّةً أو غير عاريّةٍ، وأنّ هناك تعدّياً أم لا، يرجع فيه للعرف والعادة‏.‏ فقد قال الحنفيّة‏:‏ إنّه إذا اختلف ربّ الدّابّة والمستعير فيما أعارها له، وقد عقرها الرّكوب أو الحمولة، فالقول قول ربّ الدّابّة‏.‏ وقال ابن أبي ليلى‏:‏ القول قول المستعير‏.‏ وحجّته أنّ ربّ الدّابّة يدّعي على المستعير سبب الضّمان، وهو المخالفة في الاستعمال، وهو منكرٌ لذلك فالقول قوله‏.‏ واحتجّ الحنفيّة بأنّ الإذن في الاستعمال يستفاد من جهة صاحب الدّابّة، ولو أنكر أصل الإذن كان القول قوله، فكذلك إذا أنكر الإذن على الوجه الّذي انتفع به المستعير‏.‏ وفي الولوالجية‏:‏ إذا جهّز الأب ابنته ثمّ مات فجاء ورثته يطلبون قسمة الجهاز بينهم، فإن كان الأب اشترى لها الجهاز في صغرها أو بعدما كبرت، وسلّمه إليها في حال صحّته، فليس للورثة حقٌّ فيه بل هو للبنت خاصّةً‏.‏

فهذا يدلّ على أنّ قبول قول المالك أنّها عاريّةٌ بيمينه ليس على إطلاقه، بل ذلك إذا صدّقه العرف‏.‏ وقالوا‏:‏ كلّ أمينٍ ادّعى إيصال الأمانة إلى مستحقّها قبل قوله بيمينه، كالمودع إذا ادّعى الرّدّ والوكيل والنّاظر، وسواءٌ كان ذلك في حياة مستحقّها أو بعد موته، إلاّ في الوكيل بقبض الدّين، إذا ادّعى بعد موت الموكّل أنّه قبضه ودفعه له في حياته لم يقبل قوله، إلاّ ببيّنةٍ‏.‏

ولو جهّز ابنته بما يجهّز به مثلها، ثمّ قال‏:‏ كنت أعرتها الأمتعة‏.‏ إن كان العرف مستمرّاً بين النّاس أنّ الأب يدفع الجهاز ملكاً لا إعارةً، لا يقبل قوله إنّه إعارةٌ، لأنّ الظّاهر يكذّبه‏.‏ وإن لم يكن العرف كذلك أو تارةً وتارةً فالقول له في جميع الجهاز، لا في الزّائد على جهاز مثلها، والفتوى على ذلك‏.‏ وإن كان الجهاز أكثر ممّا يجهّز به مثلها فالقول له اتّفاقاً‏.‏ والمالكيّة كالحنفيّة في أنّ المستعير يصدّق بيمينه، إذ قالوا‏:‏ إذا هلكت العين المعارة واختلف المعير والمستعير في سبب هلاكها أو تعيّبها، فقال المعير‏:‏ هلكت أو تعيّبت بسبب تفريطك، وقال المستعير‏:‏ ما فرّطت، فإنّه يصدّق بيمينه أنّها ما هلكت أو تعيّبت بسبب تفريطه‏.‏ فإن نكل غرم بنكوله‏.‏ ولا تردّ اليمين على المدّعي لأنّها يمين تهمةٍ‏.‏

وإذا وجب الضّمان على المستعير فعليه جميع قيمته في حالة الهلاك، أو عليه الفرق بين قيمته سليماً ومتعيّباً‏.‏ وإن كان المستعار غير آلة حربٍ كفأسٍ ونحوه، وأتى به إلى المعير مكسوراً فلا يخرجه من الضّمان، إلاّ أن تشهد البيّنة أنّه استعمله استعمالاً معهوداً في مثله، فإن شهدت البيّنة بعكسه فكسر لزمه الضّمان‏.‏

وإذا اختلف المالك والمنتفع في كون العين عاريّةً أو مستأجرةً ينظر‏:‏ فإن كان الاختلاف قبل مضيّ مدّةٍ لمثلها أجرٌ، ردّت العين إلى مالكها، وصرّح الحنابلة هنا بتحليف مدّعي الإعارة‏.‏ وإن كان الاختلاف بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أجرٌ، فقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ القول قول المالك مع يمينه، لأنّ المنتفع يستفيد من المالك ملك الانتفاع، ولأنّ الظّاهر يشهد له فكان القول قول المالك في التّعيين، لكن مع اليمين، دفعاً للتّهمة‏.‏

19 - وإن اختلفا في كونها عاريّةً أو مستأجرةً بعد تلف العين‏:‏ فمذهب الشّافعيّة والحنابلة كما قال ابن قدامة‏:‏ إن اختلفا في ذلك بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أجرٌ وتلفت البهيمة، وكان الأجر بقدر قيمتها، أو كان ما يدّعيه المالك منهما أقلّ ممّا يعترف به الرّاكب، فالقول قول المالك بغير يمينٍ‏.‏ سواءٌ ادّعى الإجارة أو الإعارة، إذ لا فائدة في اليمين على شيءٍ يعترف له به‏.‏ ويحتمل ألاّ يأخذه إلاّ بيمينٍ، لأنّه يدّعي شيئاً لا يصدّق فيه، ويعترف له الرّاكب بما يدّعيه فيحلف على ما يدّعيه، وإن كان ما يدّعيه المالك أكثر، مثل إن كانت قيمة البهيمة أكثر من أجرها فادّعى المالك أنّها عاريّةٌ لتجب له القيمة، وأنكر استحقاق الأجرة، وادّعى الرّاكب أنّها مكتراةٌ، أو كان الكراء أكثر من قيمتها، فادّعى المالك أنّه أجّرها ليجب له الكراء، وادّعى الرّاكب أنّها عاريّةٌ، فالقول قول المالك في الصّورتين، فإذا حلف استحقّ ما حلف عليه‏.‏

وقواعد الحنفيّة والمالكيّة تقتضي أنّ القول حينئذٍ قول من يدّعي الإعارة، لأنّه ينفي الأجرة‏.‏ وأمّا الضّمان فلا ضمان على كلّ حالٍ في الإجارة والإعارة‏.‏

فإن تلفت العين قبل ردّها تلفاً تضمن به العاريّة فقد اتّفقا على الضّمان لها، لضمان كلٍّ من العاريّة والمغصوب‏.‏

وإذا اختلفا، فادّعى المالك الغصب، وادّعى المنتفع الإعارة، فإن كان قبل الاستعمال والدّابّة تالفةٌ فالقول قول المنتفع، لأنّه ينفي الضّمان، والأصل براءة الذّمّة، وإن كان بعد الاستعمال فالقول قول المالك مع يمينه، لأنّ الظّاهر أنّ الهلاك جاء من الاستعمال‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إن كان الاختلاف عقيب العقد، والدّابّة قائمةٌ لم يتلف منها شيءٌ، فلا معنى للاختلاف، ويأخذ المالك بهيمته‏.‏ وكذلك إن كانت الدّابّة تالفةً، لأنّ القيمة تجب على المستعير كوجوبها على الغاصب‏.‏

وإن كان الاختلاف بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أجرٌ فالاختلاف في وجوبه، والقول قول المالك، لأنّه ينكر انتقال الملك إلى الرّاكب، والرّاكب يدّعيه والقول قول المنكر، لأنّ الأصل عدم الانتقال، فيحلف ويستحقّ الأجرة‏.‏

نفقة العاريّة

20 - ذهب الشّافعيّة - ما عدا القاضي حسينٍ - والحنابلة، وهو المعتمد عند المالكيّة إلى أنّ نفقة العاريّة الّتي بها بقاؤها كالطّعام مدّة الإعارة على مالكها، لأنّها لو كانت على المستعير لكان كراءً، وربّما كان ذلك أكثر من الكراء فتخرج العاريّة عن المعروف إلى الكراء، ولأنّ تلك النّفقة من حقوق الملك‏.‏

ومذهب الحنفيّة، وغير المعتمد عند المالكيّة، وهو ما اختاره القاضي حسينٌ من الشّافعيّة أنّ ذلك على المستعير، لأنّ مالك الدّابّة فعل معروفاً فلا يليق أن يشدّد عليه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنّها على المستعير في اللّيلة واللّيلتين، وعلى المعير في المدّة الطّويلة كما في الموّاق، وقد عكس عبد الباقي الزّرقانيّ‏.‏

مئونة ردّ العاريّة

21 - فقهاء المذاهب الثّلاثة، وهو الأظهر عند المالكيّة على أنّ مئونة ردّ العاريّة على المستعير، لخبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»، ولأنّ الإعارة مكرمةٌ فلو لم تجعل المئونة على المستعير لامتنع النّاس منها‏.‏ وهذا تطبيقٌ لقاعدة ‏"‏ كلّ ما كان مضمون العين فهو مضمون الرّدّ ‏"‏‏.‏

وعلى المستعير ردّها إلى الموضع الّذي أخذها منه، إلاّ أن يتّفقا على ردّها إلى مكان غيره، لأنّ ما لزم ردّه وجب ردّه إلى موضعه كالمغصوب‏.‏

ما يبرأ به المستعير

22 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المستعير لو ردّ الدّابّة إلى مالكها أو وكيله في قبضها فإنّه يبرأ منها‏.‏ أمّا إن ردّها بواسطة آخرين وإلى غير المالك والوكيل ففي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ‏:‏ قال الحنفيّة في الاستحسان والمالكيّة‏:‏ إن ردّ المستعير الدّابّة مع خادمه أو بعض من هو في عياله فلا ضمان عليه إن عطبت، لأنّ يد من هو في عياله في الرّدّ كيده، كما أنّ يد من في عياله في الحفظ كيده‏.‏ والعرف الظّاهر أنّ المستعير يردّ المستعار بيد من في عياله ولهذا يعولهم، فكان مأذوناً فيه من جهة صاحبها دلالةً‏.‏ وكذلك إن ردّها إلى خادم صاحب الدّابّة، وهو الّذي يقوم عليها، فهو بريءٌ استحساناً‏.‏ والقياس ألاّ يبرأ ما لم تصل إلى صاحبها، كالمودع إذا ردّ الوديعة لا يبرأ عن الضّمان ما لم تصل إلى يد صاحبها‏.‏

وجه الاستحسان أنّ صاحبها إنّما يحفظ الدّابّة بسائسها‏.‏ ولو دفع المستعير الدّابّة إلى مالكها فهذا يدفعها إلى السّائس، فكذلك إذا ردّها على السّائس‏.‏ والعرف الظّاهر أنّ صاحب الدّابّة يأمر السّائس بدفعها إلى المستعير، وباستردادها منه إذا فرغت، فيصير مأذوناً في دفعها إليه دلالةً‏.‏ وهذا في غير المعار النّفيس، إذ فيه لا بدّ من التّسليم للمالك، وإلاّ لم يبرأ‏.‏ وعند الشّافعيّة أنّه يجوز الرّدّ إلى الحاكم عند غيبة المعير أو الحجر عليه بسفهٍ أو فلسٍ، فلو ردّ الدّابّة إلى الإسطبل، والثّوب ونحوه للبيت الّذي أخذه منه لم يبرأ، إلاّ أن يعلم به المالك أو يخبره به ثقةٌ‏.‏ وكذلك لا يبرأ عندهم بالرّدّ إلى ولده أو زوجته، حتّى ولو لم يجد المالك أو وكيله، بل يجب الضّمان عليهما بالرّدّ إليها، فإن أرسلاها إلى المرعى وتلفت فالضّمان عليهما، لحصول التّلف في يدهما، حتّى لو غرما لم يرجعا على المستعير، ولو غرم المستعير رجع عليهما‏.‏

والحنابلة كالشّافعيّة في أنّه إذا ردّها إلى المكان الّذي أخذها منه، أو إلى ملك صاحبها لم يبرأ، لأنّه لم يردّها إلى مالكها ولا نائبه فيها، كما لو دفعها إلى أجنبيٍّ‏.‏

وإن ردّها إلى من جرت عادته بحصول ذلك على يديه، كزوجته المتصرّفة في ماله، أو ردّ الدّابّة إلى سائسها، فقياس المذهب أنّه يبرأ، قاله القاضي‏.‏ وقاس ذلك على الوديعة، وقد قال الإمام أحمد فيها‏:‏ إذا سلّمها المودع إلى امرأته لم يضمنها، لأنّه مأذونٌ في ذلك عرفاً أشبه ما لو أذن فيه نطقاً‏.‏

ما تنتهي به الإعارة

23 - تنتهي الإعارة بأحد الأسباب الآتية‏:‏

أ- انتهاء المدّة في الإعارة المؤقّتة‏.‏

ب- رجوع المعير في الحالات الّتي يجوز فيها الرّجوع‏.‏

ت- جنون أحد المتعاقدين‏.‏

ث- الحجر عليه لسفهٍ أو فلسٍ‏.‏

ج- موت أحد المتعاقدين‏.‏

ح- هلاك العين المعارة‏.‏

خ- استحقاقها للغير‏.‏

استحقاق العاريّة، وتلف المستعار المستحقّ، ونقصانه

24 - يختلف الفقهاء في رجوع المستحقّ على المعير أو المستعير عند تلف المستعار المستحقّ أو نقصانه، وفيمن يكون عليه قرار الضّمان، ولهم في ذلك رأيان‏:‏

الأوّل‏:‏ يرجع المستحقّ على المستعير، وليس له أن يرجع على المعير، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة‏.‏ وقد علّل الحنفيّة لذلك بأنّ المستعير يأخذ لنفسه، ولأنّها عقد تبرّعٍ، والمعير غير عاملٍ له، فلا يستحقّ السّلامة، ولا يثبت به الغرور‏.‏

الثّاني‏:‏ الرّجوع على المعير أو المستعير، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة، فالرّجوع على المعير لتعدّيه بالدّفع للغير، وأمّا على المستعير فلقبضه مال غيره - وهو المستحقّ - بغير إذنه، غير أنّهم يختلفون في الّذي يكون عليه قرار الضّمان، فقال الشّافعيّة‏:‏ إن رجع على المستعير فلا يرجع على من أعاره، لأنّ التّلف أو النّقص كان من فعله، ولم يغرّ بشيءٍ من ماله فيرجع به، وإن ضمنه المعير فمن اعتبر العاريّة مضمونةً قال‏:‏ للمعير أن يرجع على المستعير، لأنّه كان ضامناً، ومن اعتبر العاريّة غير مضمونةٍ لم يجعل له أن يرجع عليه بشيءٍ، لأنّه سلّطه على الاستعمال‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم، لأنّه غرّه وغرمه، ما لم يكن المستعير عالماً بالحال فيستقرّ عليه الضّمان، لأنّه دخل على بصيرةٍ، وإن ضمّن المالك المعير لم يرجع بها على أحدٍ إن لم يكن المستعير عالماً، وإلاّ رجع عليه‏.‏

أثر استحقاق العاريّة على الانتفاع

25 - صرّح الحنابلة بأنّه إذا استعار شخصٌ شيئاً فانتفع به ثمّ ظهر مستحقّاً، فلمالكه أجر مثله، يطالب به المعير أو المستعير‏.‏ فإن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم، لأنّه غرّه وغرمه، لأنّ المستعير استعار على ألاّ أجر عليه‏.‏ وإن رجع على المعير لم يرجع على أحدٍ‏.‏ وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك‏.‏

الوصيّة بالإعارة

26 - ذهب جمهور الفقهاء إلى صحّة الوصيّة بالإعارة إذا خرج مقابل المنفعة من الثّلث باعتبارها وصيّةً بالمنفعة‏.‏ وخالف في ذلك ابن أبي ليلى وابن شبرمة‏.‏